د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
قال فهد عاشور في القسم الخامس من مقدمات كتابه (الفصحى لغة مصطنعة) «تظهر اللغة الفصحى على مسرح التاريخ في بداية العصر العباسي بصورة مفاجئة. ومن دون أية مقدمات مقنعة، لا وجود لأية معلومات عن طفولة هذه اللغة، أو عن مكان وزمن ولادتها، أو عن مراحل تطورها التاريخية، أو عن هوية القبائل التي نطقت بها أول مرة. لا وجود لأية أدلة تثبت الهيمنة المزعومة لهذه اللغة على كامل مساحة جزيرة العرب، أو توضح متى وكيف ولماذا حدث ذلك، اللغة الفصحى لغة مكتملة ومنتظمة انتظامًا دقيقًا، لكنها تبدو وكأنها قد ولدت دفعة واحدة، وبصورة مفاجئة، من العدم»(ص 15)، وليسند قوله نقل ما كتب أنيس فريحة؛ ولكن نص فريحة لا يسنده فهو يتحدث عن اللغة الفصحى في العصر الإسلامي المبكر، وكتابته تشهد لمدى عمق تاريخ هذه اللغة، أما المفاجأة فهي موازية لمفاجأة ظهور رسالة إلهية في أرض بعيدة عن أماكن الحضارات، والعربية لغة شفاهية لم ينلها حظ من التدوين حتى شرّفها الله بأن تكون لغة القرآن الكريم والحديث الشريف.
ويقول «الأكثر غرابة من ولادة اللغة الفصحى المفاجئة هو موتها المفاجئ، في نهاية القرن الـ 10/4م، من دون وجود أسباب مقنعة لذلك»؛ ثم يقول «حتى اليوم بالنسبة للغة الفصحى اللغة الرسمية للدولة، ولغة الطبقة الحاكمة (وفقًا للمزاعم)، ولغة الدين، ولغة الشعر والأدب ولغة الكتابة، لم يتطلب الأمر سوى 400 عام فقط لكي تموت، ولكي يختفي الناطقون بها كليًا من الوجود، وفقًا لإعلان ابن جني الشهير»( ص 16). ينسف المؤلف بهذا تاريخ العرب الثقافي كله؛ فكل ما كان قبل القرن الثاني وما كان بعد القرن الرابع ليس من اللغة الفصحى، فلا كتب الفقه والعقيدة ولا كتب التفسير والتاريخ ولا كتب الأدب ودواوين الشعر ولا كتب اللغة والنحو من اللغة الفصيحة في زعمه، وهذا الذي يمكن أن يوصف بالغرابة، ألا ترى العامي يتحدث لغته العامية فإذا أهمه أمر وتحدث في الإعلام تكلم بالفصحى وإن لم تكن بالغة السلامة، إن الحديث بالفصحى وسيلة التفاهم بين العرب في أقطارهم المختلفة وهي سبيل تواصلهم مع المسلمين في العالم، في كل يوم يرفع الأذان خمس مرات باللغة الفصحى. وجميع المسلمين يصلون فيتلون القرآن في صلاتهم باللغة العربية الفصحى. غرّ المؤلف اعتباره الفصحى الملتزمة بالإعراب، والفصحى أكبر من ذلك فهي تراكيب وأبنية صرفية، وليس الإعراب سوى مظهر من مظاهر الفصحى، والمستعمل كلما التزم بخصائص الفصحى كان أفصح.
نجد المؤلف يعدد أنماط العربية وتنوعاتها لجعل اللغة الفصحى نمطًا منها، وكأنه يناقض قوله بصناعتها، وهو يعتمد في ذلك على لغة النقوش ودراستها، قال «فمع تزايد الاكتشافات الأثرية في العقود الماضية، وبفضل نتائج الدراسات الجادة للغة النقوش القديمة، وللغة البرديات العربية، وللهجات العامية المعاصرة أصبح بإمكاننا - وفقًا للأدلة المتاحة - التمييز بين أربعة تنوعات لغوية كبرى تنضوي كلها تحت مظلة اللغة العربية»(ص 17)، وهو بهذا يعد الفصحى منضوية تحت مظلة اللغة العربية.
أما التنوعات المختلفة فهي:
(1) العربية الطبيعية: اللغة الأم التي يتكلمها العرب بصورة طبيعية... هي طيف واسع ومتنوع من اللهجات قسمها زمنيًا إلى 3 مجموعات:
أ - اللهجات العربية القديمة التي كتبت بها النقوش العربية القديمة.
ب - لهجات القرون الهجرية الأولى (1 - 3هـ) لهجات شديدة الشبه باللهجات العامية المعاصرة في بلاد الشام.
ت - اللهجات العربية الحديثة طيف متنوع من اللهجات غير مشتقة من اللغة الفصحى أو متطورة عنها، ولكنها امتداد لغيرها.
(2) العربية القرآنية: «تسمى أيضًا العربية القديمة، هي لغة دينية ظهرت إلى حيز الوجود في بداية القرن الـ(7م). لا وجود لأية أدلة مادية تثبت أن هذه اللغة كانت مستخدمة كلغة طبيعية في جزيرة العرب قبل نزول القرآن أو بعده» (ص 18)، أيريدنا المؤلف أن نفهم هنا أنها لغة اصطناعية تلبية لحاجة الرسالة الدينية، إذن كيف فهمت الرسالة؟ وكيف فسرها ابن عباس معتمدًا على الشعر الجاهلي؟
(3) العربية الوسطى: تنوع لغوي يمزج بين خصائص العربية القرآنية وخصائص العربية الطبيعية (اللهجات) مع خصائص أخرى لا توجد في كلتيهما، هي لغة طائفة كبيرة جدًا من الكتابات الخاصة العامة العلمية الأدبية الفلسفية والدينية» (ص 18)، وهذه العربية التي يصفها لا نعرفها. (4) «العربية الفصحى تنوع لغوي غير طبيعي، تمت صناعته في القرن الـ 2هـ / 8م تلبية لاحتياجات دولة الخلاقة اللغوية والدينية، نشأت العربية الفصحى من دمج خصائص ومكونات العربية الطبيعية (اللهجات) مع خصائص ومكونات العربية القرآنية باستخدام مبادئ وقوانين الرياضيات، وأصبحت لغة الكتابة، ولغة الأدب النخبوي (أدب النخبة)، ولغة الشعائر الدينية، لكنها فشلت في التحول إلى لغة طبيعية (لغة أم)، يكتسبها الناس بصورة طبيعية، ويتواصلون بها في حياتهم اليومية» (ص 18 - 19). ولا نعلم ما الفرق بين العربية الفصحى والعربية الوسطى، وما احتياجات دولة الخلاقة اللغوية والدينية التي دعت إلى تنكب الإعراب والتضييق على الناس به، وأقول مرة أخرى اقرأ القرآن والأشعار من غير إعراب وانظر هل يستقيم الأمر لك. واسأل نفسك لم التزمت العاميات بالرتبة لخلوها من الإعراب، تقول في الفصحى: عمرًا أكرم زيدٌ ليكون عمرٌو مفعولًا به وزيد فاعلًا، وأما في العامية فستقول: عمرو أكرم زيد فيكون فاعل الإكرام عمرو حتمًا. ومثلها: أكرم عمرًا زيد، عمرٌو مفعول به في الفصحى وهو فاعل في العامية وإن نصبته.