في كل مرحلة تأسيسية، يظهر أشخاص مؤثرون مخلصون؛ لأن دورهم يقوم على العمل الصامت والمثابرة اليومية وبناء الثقة العميقة مع صانعي القرار، ويكونون ملء السمع والبصر في زمنهم، ثم تختفي سيرهم من ذاكرة الأجيال اللاحقة، بسبب عوامل عديدة، من أبرزها ضعف التوثيق التاريخي الإداري.
تبرز سيرة معالي الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن عبدالله بن دغيثر نموذجًا أصيلًا لرجلٍ كان حضوره في صميم صناعة القرار السعودي المبكر، فباتت قصته شهادة على أن بناء الدول يتطلب رجالًا يعرفون حساسية الدور الذي يؤدونه، ونوع المهام الموكلة إليهم، وحجم الثقة فيهم، وقدر المسؤولية الملقاة على عاتقهم، ويجيدون إدارة التفاصيل الصغيرة، ويكشف هذا كله أن البناء الوطني يقوم على إدارة التفاصيل اليومية التي صنعت الثقة بين الحاكم والمجتمع.
ينتمي محمد بن دغيثر إلى آل يزيد، المستقرّين في العارض ووادي حنيفة منذ القرن الثامن الهجري، ثم استقر آل دغيثر في الدرعية منذ السعودية الأولى، وهم من بني حنيفة، القبيلة التي مثّلت عمق الوسط العربي منذ ما قبل الإسلام.
انتقلت أسرة آل دغيثر من الدرعية بعد عام 1233هـ إلى الرياض وضرما وحريملاء، محافظةً على تماسكها وشبكة انتمائها التاريخي، وتفرعت إلى أربعة فروع هي، حسب الترتيب الأبجدي: آل حسن، وآل صالح، وآل عبدالله بن سعود، وآل محمد. جمع محمد بن دغيثر بين رمزية الحضور الرسمي ودفء العلاقة الشعبية، فكان وجهًا مألوفًا في مجالس القادة ومجالس الناس على حد سواء، مما يعكس طبيعة الدور الوسيط الذي مثّله بين السلطة والمجتمع، حيث كانت الثقة الشخصية أساسًا للتوازن في مجتمع لم تترسخ فيه بعد البيروقراطية الحديثة.
كانت نجد لا تعرف البيروقراطية بمعناها الحديث، وإنما كانت النخبة الناشئة تُصقل في مجالس العلم والقيادة، لهذا لم يكن مستغربًا أن يكتسب محمد بن دغيثر صفات دقيقة مثل الهدوء الشديد في أوقات التوتر، والصبر وقوة الملاحظة، والدقة في التفاصيل.
مرحلة التأسيس التقني (1345-1373هـ)
تكمن أهمية ديوان البرقيات في ذلك الزمن أنه كان النواة الأولى لأمن المعلومات وتقنية الاتصالات، فهو وسيلة الاتصال السريعة والوحيدة تقريبًا لربط الملك بمناطق البلاد المترامية الأطراف وبالمفوضيات والسفارات الناشئة، وكان ابن دغيثر شاهدًا على التحول من التقليد إلى التنظيم المؤسسي. وقد كانت المراسلات قبل ذلك تكتب بخط اليد، ويتولى توزيعها مراسلون على ظهور الإبل، ثم على السيارات، فكانت الأخبار والتعليمات تصل متأخرة.
كانت البرقية هي النبض اليومي للدولة، فكل توجيه أو أمر أو شكوى يمر من هذا الديوان. وقد روى الشيخ محمد نفسه، في مقابلة معه ضمن كتاب «رجال حول الملك عبدالعزيز»، تفاصيل عن طبيعة عمله حين قال: «اقتضت طبيعة عملي أن أكون دائم الاتصال بجلالته ليلًا ونهارًا... احتفظ بدفتر الشيفرة في منزلي؛ لأن جلالته كان حريصًا على إنجاز عمله في يومه». ما يكشف أن الوظيفة كانت حالة التزام دائم وانصهار كامل في خدمة الدولة. بينما كانت الإدارات العربية في منتصف القرن العشرين تعاني تشتت المراسلات بين الوزارات والدوائر المحلية، ففي حين اعتمدت كثير من الدول العربية على النمط البيروقراطي الورقي المتأثر بالإدارة البريطانية، وتشبثت بعض الأقاليم العثمانية السابقة بالأسلوب المحلي في المخاطبات، صاغت السعودية نموذجها الخاص القائم على الربط الفوري بين المعلومة والقرار. ما أنتج وعيًا مؤسسيًا يقوم على المركزية التنظيمية والسرعة الإجرائية.
هذا التحول غيّر مفهوم الزمن في الإدارة، فصار القرار يُبنى على لحظة الحدوث، وتحوّل الفعل الإداري من المبادرة الفردية إلى النسق المؤسسي المنضبط. ومع دخول البرقية إلى الديوان بدأ الزمن السياسي والإداري يتوحّد، فصارت الدولة تمتلك أداة تجعلها حاضرة في كل مكان في اللحظة ذاتها، وهو ما أسس فعليًا لبداية التاريخ الإداري الحديث في المملكة.
التحق ابن دغيثر للعمل مع الملك عبدالعزيز عام 1345هـ، عندما كان مقر قصر الحكم في الديرة، وسط الرياض القديمة، وتولّى في وقت مبكر (عام 1347هـ) منصب رئيس ديوان البرقيات، وهو أول من شغل هذا المنصب الجديد، ما جعله حاضرًا في قلب كل قرار، وكاتم سرّ الملك عبدالعزيز، وانتقل للعمل الجديد المطور مع تأسيس القصور الملكية في حي المربع عام 1357هـ. كان حضوره في الجلسات الثلاث التي يعقدها الملك عبدالعزيز، ففي الصباح تبدأ مراجعة البرقيات لأهميتها، ثم جلسة العصر لمناقشة القضايا المهمة مع الأمراء وكبار الموظفين، وأخيرًا جلسة العشاء التي يقتصر حضورها عليه هو والشيخ عبدالرحمن القويز الذي يقرأ التفسير وبعض الكتب الشرعية، ونخبة قليلة معهما.
اعتمد الديوان أسلوبًا موحّدًا موجزًا للمراسلات، ودُوِّنت البرقيات الملكية كما ينطقها الملك بلهجته، مع الحفاظ على الإيجاز وصيغة الأمر.
عمل محمد بن دغيثر مع الملك عبدالعزيز ما يقارب ثمانية وعشرين عامًا (1345-1373هـ/ 1926-1953م)، وكانت تلك الفترة تموج بالتحولات الدولية الكبرى، من تبعات سقوط الدولة العثمانية إلى الحرب العالمية الثانية، ثم بدايات الحرب الباردة، وعاصرت أحداثًا جسيمة في الداخل مثل تكامل توحيد المملكة وحركات التمرد الداخلية التي قُضي عليها في حينها، فكانت البرقيات أداة تواصل المملكة مع العالم.
رافق الملك عبدالعزيز في اللقاء التاريخي مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في البحيرات المرّة الكبرى على ظهر الباخرة كوينسي (14 فبراير 1945)، وهو حدث محوري في علاقة المملكة بالعالم، ولقاء الملك مع تشرشل في واحة الفيوم بعدها بأيام (فبراير 1945)، ولقاء الملك فيصل الأول، ملك العراق في الباخرة البريطانية لوبين عام 1930. كما كان مرافق الملك عبدالعزيز، في جميع رحلاته الداخلية والخارجية التاريخية، وكان شاهد عيان ومطلعًا على أحداث داخلية مثل معركة السبلة وخباري وضحى، ويمثل حضوره لكثير من الأحداث الحاسمة دليلًا صريحًا على مكانته وموثوقيته، فقد كان من الصعب أن يرافق الملك في هذه المحافل من لا يملك كفاءة استثنائية.
يصف المستشار فؤاد حمزة بأن محمد بن دغيثر كان حلقة الوصل اليومية بين إرادة الملك وبقية أجهزة الدولة، ورجل لا يُفارق مجلس الملك إلا في النادر.
امتلك محمد بن دغيثر بصيرة إدارية رفيعة تجلّت في قدرته على ترتيب الأولويات أمام الملك وفق ميزانٍ دقيق بين المعلومة وتوقيتها، وأدرك أن التوقيت في عرض البرقيات يحدّد أثرها ومغزاها، وأن اختيار اللحظة المناسبة قد يصنع من المضمون قرارًا، فيما قد يُفقده التبكير أو التأخير قيمته.
جمع بين الصرامة الإدارية والذكاء العاطفي في التعامل مع الملوك والوزراء والوفود، وكان يعرف أن تقديم الخبر لا يقل خطورة عن صياغته، وأن ترتيب المعلومة أمام الملك هو شكل من أشكال البصيرة السياسية.
مرحلة الانتقال المؤسسي (1373-1384هـ)
كُلِّف ابن دغيثر، بين عامي 1373هـ و1379هـ (1953-1959م)، بمهام رئاسة الديوان الملكي، بحسب لقاء مع الأمير محمد بن سعود، الذي تولّى المنصب رسميًا بعده، وهو ما يعكس مكانته المرموقة، المستندة إلى خبرة طويلة وثقة ملكية عالية، ويرمز هذا التكليف إلى أن الإدارة السعودية رأت فيه رصيدًا بشريًا في لحظات الانتقال المؤسسي.
قال الأمير خالد بن سعود، عندما عُين رئيساً للديوان الملكي بعد أخيه الأمير محمد: «واستمررت سنتين تقريباً، وكان معي الشيخان يوسف ياسين ومحمد الدغيثر رحمهما الله، وهما من ساعداني وقتها على تحمل أعباء هذا المنصب»(1).
بعد تعيينه مستشارًا خاصًا للملك سعود بتاريخ 21-11-1380هـ وتفرغه لهذا المنصب، تولّى أحد أبناء عمومته وهو الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن حسن بن دغيثر منصب أمانة السر في الديوان الملكي لمدة عام وسبعة أشهر، ثم أعيد تعيين محمد بن عبدالعزيز بن عبدالله بن دغيثر رسميًا أمينًا للسر بتاريخ 5-7-1382هـ، مع استمرار ابن عمه مساعدًا له. وقد أدى تشابه الاسمين والاشتراك في المنصب إلى وقوع التباس لدى بعض الباحثين في التفريق بين الشخصين.
تميّزت فترة عمل المستشار محمد بن دغيثر مع الملك سعود بإنجازات مهمة؛ أبرزها تقنين تداول البرقيات وفق أنظمة إدارية حديثة، وهي خطوة أساسية في بناء الدولة الحديثة. واصل عمله في عهد الملك سعود من خلال مقريّ الديوان في القصر الأحمر ثم قصر الناصرية، وكان مرافقه الخاص في رحلاته الداخلية والخارجية، وفق ما سار عليه في زمن الملك عبدالعزيز، إلى عام 1384هـ، في ختام مسيرة عملية حافلة بالخبرات.
مرحلة ما بعد الخدمة (1384-1416هـ)
ركز اهتمامه في العمل الحر بعد تقاعده، واستمر نشاطه في إدارة شؤونه الخاصة بأسلوب اتسم بالنظام والدقة التي عُرف بها في خدمته للدولة.
من أبرز جوانب سيرة المستشار محمد بن دغيثر قدرته على الجمع بين الصمت والانفتاح العملي. فقد عاش حياته المهنية في حالة يقظة تامة، يحيط المعلومة بسياج من الكتمان، بينما يفتح ذهنه لكل جديد، ويروي زملاؤه أنه كان حاضرًا دون أن يُثقل حضوره.
خصص جزءًا من وقته بعد تقاعده للعمل الخيري الشخصي والمؤسسي، وخاصة مشاركته ضمن لجان الإغاثة؛ حيث تولى رئاسة اللجنة الشعبية لمساعدة باكستان، كما عينه الملك سلمان بن عبدالعزيز- أمير الرياض آنذاك - نائباً له في رئاسة بعض اللجان الشعبية لمساعدة الشعوب العربية والإسلامية التي تتعرض للأزمات.
امتد أثره إلى أسرته، فربّى أبناءً وبناتٍ ورثوا منه روح التنظيم والإنجاز، مما يعكس كيف تنتقل القيم المؤسسية من جيل إلى جيل في التجربة السعودية المبكرة. وتظهر هذه النقطة كيف تتحول قيم رجل الدولة إلى رأس مال اجتماعي تنتقل من المجال العام إلى المجال الأسري.
وتُعد هذه السيرة الأسرية انعكاسًا دقيقًا لنمط النخب السعودية التي عبرت جسور الانتقال من المجتمع التقليدي ما قبل النفط إلى الدولة الحديثة دون أن تنقطع عن أصلها الثقافي والاجتماعي.
وفــاتــه
توفي الشيخ محمد ليلة الأربعاء الخامس من ربيع الأول سنة 1416هـ، ونعاه الديوان الملكي في بيان رسمي، بعد أن سجل اسمه في سجل الدولة السعودية كأحد صناع بنيتها الإدارية الحديثة، وقد دُفن في مقبرة العود بالرياض.
خُلِّد اسمُه بإطلاقه على أحد الشوارع الرئيسة في العاصمة، في مبادرة تحمل دلالات رمزية تقديرية، حيث يقع شارع محمد بن عبدالعزيز بن عبدالله بن دغيثر في شمال مدينة الرياض، ويجاور محاور رئيسة مثل طريق الملك فهد وشارع العليا.
خــتــام
ترك محمد بن دغيثر نمطًا إداريًا ظلّ يتوارثه رجال الدولة من بعده دون أن يدركوا أن جذره يعود إليه. ويعد رائد «أمن المعلومات والاتصالات»؛ لأن تقنية البرقيات قبل قرن كانت بذرة العصر التقني الذي تعيشه السعودية الآن، حيث أسس إدارة تدفق المعلومات والوعي الزمني في صناعة القرار وأسهم في تطوير هندسة القرار الإداري، ما جعله يمارس تأثيرًا غير مباشر في الأحداث. فقد رسّخ في الإدارة السعودية المبكرة مبدأ «القرار المسؤول»؛ أي أن على الموظف ألا يكتفي بتنفيذ الأوامر، بل إن يهيئ القرار قبل أن يُتخذ، وأن يحمي هيبة الدولة في كل خطاب يمر بين يديه.
إن توثيق هذه التجارب الذاتية تثبيت لذاكرة مؤسسات الدولة، وتُعلّم الأجيال كيف تنمو المؤسسات، وكيف تتراكم الخبرات وتُصقل القيم العملية والإنسانية معًا.
فالسير الذاتية الصادقة تُضيء جوانب خفية من التجربة الوطنية، وتذكّرنا أن المجتمعات الناجحة هي التي تعرف كيف تحفظ حكايات بناة الدولة وتقرأ فيها معاني الثقة والصبر، والالتزام العميق الذي يخلّد أثر الرجال الأفذاذ في الضمير العام.
***
- د. عبدالرحمن بن عبدالله الشقير
***
المرجع
(1) طالع مجلة المختلف في العام الحادي عشر - العدد 110 - سبتمبر 2000م - ص9.