تُعدّ اللغة العربية من أغنى اللغات بأساليبها التعبيرية التي تتيح للمتكلم توجيه الخطاب بما يناسب المقام والمخاطب، ومن بين تلك الأساليب ما يُعرف بأساليب التنبيه، وهي طرائق لغوية وبلاغية يُراد بها لفت الانتباه وإيقاظ الوعي نحو: فكرة، أو أمر، أو الالتفات إلى تحذير، أو دعوة إلى فعل أو تركه. غير أنّ هذا الأسلوب، على غناه وتعدّده، لم يُخصّص له باب مستقل في كتب النحو أو البلاغة القديمة، إذ كان يُذكر ضمن أبواب متفرقة، مثل: الأمر، والنداء، والتحذير، والإغراء، وأدوات التنبيه. ومن هنا تأتي الحاجة إلى إعادة النظر في هذا الحقل الأسلوبي الذي يجمع بين مقاصد البلاغة ووظائف اللغة التواصلية، إذ للتنبيه دوره في إحداث الأثر التواصلي.
فالتنبيه في اللغة: مصدر نَبَّه من مادة: (ن ب هـ)، و(النُّبْهُ) كما ورد في لسان العرب: «القيام والانتباه من النوم، وقد نَبَّهَهُ، وأَنْبَهَهُ، وانتبه من نومه: استيقظ، والتنبيه مثله، ونَبِهْتُ للأمر أَنْبَهُ نَبهًا: فَطِنْتُ، وهو الأمر تنساه ثم تَنتَبِهُ له، ونَبَّهَهُ من الغفلة فانتَبَهُ من الغفلة فانتَبَهَ وتَنَبَّهَ: أَيْقَظَه، وتَنَبَّهَ على الأمر: شَعَرَ به، وهذا أمر مَنْبَهَةٌ على هذا أي مُشْعِرٌ به. ونبهته على الشيء: وَقَّفْتُه على الشيء فتَنَبَّهَ هو عليه»، وفي التعريفات: هو الدلالة عما غفل عنه المخاطب.
وفي الاصطلاح يُراد به: استعمالُ الألفاظ والعبارات لإثارة الانتباه وإشعار المتلقّي بأهمية ما يُقال، سواء أكان هذا الأمر للتحذير من خطر، أو للحثّ على عمل، أو لتوجيه السلوك، أو لإحداث انتباه ذهني يُمهّد لتلقّي فكرة أو توجيه، وهو استحضار ذهن المخاطب إلى ما سيلقيه المتكلم أو ما سيُحدّثه به، أي هو: «إعلام ما في ضمير المتكلم للمخاطب».
ومن الملاحظ أنّ مفهوم التنبيه يجمع بين الجانب المعنوي الإدراكي الذي يركز على إيقاظ الذهن، والجانب البلاغي الوظيفي القائم على توجيه الخطاب نحو غاية تأثيرية محددة.
يُعدّ سيبويه أول من أشار إلى التنبيه في كتابه وجعله عنواناً لأحرف خاصة هي: (ألا، وما، وها).
ورغم عدم تخصيص باب مستقلّ للتنبيه، فإنه يظهر في كتب التراث العربي ضمن عدة أساليب منها: أدوات التنبيه: (ألا، وأما، وها)، كما في قوله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (62) سورة يونس، فـ(ألا) هنا أداة تنبيه واستفتاح تنبه السامع لما بعدها.
نجد أيضًا معنى التنبيه في أسلوب التحذير والإغراء بوصفهما تنبيهًا للمخاطب على أمر مذموم لتركه، أو محبوب لفعله، كقولنا في التحذير: (إياك والكذب)، وقول الشاعر:
احذر مصاحبة اللئيم، فإنها
تعدي كما يعدي السليم الأجرب
وفي الإغراء: (العمل العمل، فإنه مفتاح الغنى، والطريق إلى المجد) أو (عليك بالعمل).
وفي أسلوب النداء الذي هو فن من فنون علم المعاني، ويراد به طلب إقبال المخاطب أو لفت انتباهه باستخدام أداة نداء تُهيّئ السامع لتلقّي الخطاب، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) (67) سورة المائدة، وقوله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (31) سورة النــور، وتختلف المعاني فيه تبعاً للسياق ومقصد المخاطب.
وأيضاً في أسلوب الأمر والنهي اللذين هما طلب فعل على جهة الاستعلاء بمعونة القرائن ودلالة السياق والمقام، واللذان يحملان كذلك دلالة التنبيه لا مجرد الإلزام بفعل الفعل، نحو: (احذر الغفلة، انتبه لعملك، لا تستهن بالوقت).
وفي أسلوب القسم والشرط: فالقسم هو أسلوب تنبيه على أهمية القول أو الفعل، وهو من طرق توكيد الكلام وإبراز معانيه ومقاصده على النحو الذي يريده المتكلم، والشرط الذي هو من الأساليب الإنشائية الذي هو «وقوع الشيء لوقوع غيره» ويهدف إلى جذب انتباه المتلقي للعلاقة بين السبب والنتيجة، وقد اجتمعا في نحو قولنا: (إن أتقنت العمل، وحقّك أُضاعف لك الأجر).
وبهذا يتضح أن بسبب عدم ترتيب أبواب كتب النحو العربي على حسب المعاني فإننا نجد أن أساليب التنبيه تناثرت بين أبواب مختلفة، فالتنبيه في التراث النحوي العربي لم يكن مقصورًا على أداة نحوية معيّنة، ولم يُفرد له باب مستقل، بل إنّ مظاهره تتجلى واضحة في أبواب كثيرة، فهو مقصد لغوي عام يتسع لأدوات وأساليب متعددة، تنساق في سياقات الكلام، حيثما وجدت الحاجة إلى لفت الذهن والانتباه، أو إثارة الوعي وتحريك الشعور.
ومع تطور الخطاب وتوسع أنواعه وأساليبه في اللغة المعاصرة، دخلت أساليب التنبيه العربية في سياقات حديثة، ووظفت في طرائق متعددة: فنجد أسلوب التنبيه في الإعلانات التسويقية في عبارات نحو: (سارع بالاشتراك) و(لا تفوت الفرصة) و(احجز الآن)، وهي صيغ يراد منها الحث أو تنبّيه المخاطب أو المتلقي إلى محدودية الوقت، أو ندرة الفرصة ليستغلها ولا تفوته.
ويستخدم المعلمون والآباء والمربون أسلوب التنبيه في تنبيهات تُغلّف بالعطف والرعاية والمحبة عند مخاطبة الأطفال منها: (انتبه يا بني)، و(ركّز في الدرس)، و(احذر أن تؤذي نفسك)، وغيرها من الأمثلة التربوية.
والمتأمل أيضًا للخطاب الإعلامي والسياسي، يجد أنهما يستخدمان أسلوب التنبيه بكثرة، فهذان الخطابان يستهدفان الجماهير، ويهدفان إلى إثارة الوعي العام بمختلف القضايا.
وعليه فإن التنبيه لم يظل مقتصراً على أحرف معينة، أو أساليب محددة تقليدية، بل تطور وأضحى أداة تواصلية أثمرت في عدة حقول معنوية ودلالية، هي بذور اللغة العربية المعاصرة.
إذًا التنبيه في جوهره ليس مجرد صيغة لغوية وإنما هو حدث إدراكي بلاغي يستهدف نقل المتلقّي من حال الغفلة إلى حال الانتباه، ويُنشئ صدمة لغوية قصيرة توقظ الذهن وتُمهّد الطريق للإقناع أو التحفيز أو التحذير.
وعلى هذا، يمكن القول إنّ التنبيه يجتمع فيه الجانب النفسي في أثره في المتلقّي، مع وظيفته البلاغية التي تستخدم الأدوات اللغوية لتأدية أثر بلاغي، وقد أدرك البلاغيون القدماء هذا البعد حين جعلوا من أدوات التنبيه وسائل تمهيد للغرض البلاغي، بينما توسّع علماء اللغة العربية المعاصرون في دراسته بوصفه آلة تداولية تنتمي إلى وظيفة تحقق الإفهام والحث في الخطاب.
ويُعد القرآن الكريم من أغنى النصوص التي وظّفت التنبيه بأساليب متعددة، وأغراض بلاغية مختلفة، منها قوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) (56) سورة الأعراف، فهو تنبيه للتبشير، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) (18) سورة الحشر وهو تنبيه للتوجيه، وقوله تعالى: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (138) سورة الصافات تنبيه للاستفهام التحريضي، وغير ذلك من المعاني الدلالية التي يزخر بها القرآن الكريم، وتختلف سياقاته باستخدام التنبيه وأساليبه، فهو يجمع بين التحذير، والإرشاد، والتذكير، وهو وسيلة لربط الوعي البشري بالعمل، والإيمان بالفعل التأملي والأخلاقي.
إنّ أساليبَ التنبيه في اللغة العربية تكشف عن عبقرية اللّسان العربي في الجمع بين الوظيفة العقلية والبلاغية للكلمة، فهي تُوقظ الذهن، وتوجّه الإرادة، وتُحدث أثرًا نفسيًّا في المتلقّي والمخاطب، ورغم أنّ كتب التراث لم تفرد للتنبيه بابًا مستقلًّا، إلا أن أساليبه جديرة بأن تُدرس في ضوء اللسانيّات الحديثة المعاصرة والبلاغة التداولية، ليُعاد تصنيفها ضمن منظومة الوظائف التواصلية للغة.
فالعربية المعاصرة مدعوة إلى تتبع أساليب التنبيه فيها، ومقارنتها بما ورد في النصوص القرآنية والبيانية القديمة، إذ في ذلك إثراء للدرس اللغوي وتجديد في فهم علاقة اللغة بالوعي والإدراك النفسي.
تطبيقات الذكاء الاصطناعي ليست بمعزل عن هذه الدعوة إذ يمكن رصد الصيغ التنبيهية فيها، ومن ثمّ حصر السياقات التي ترد فيها ودراسة ما طرأ عليها من تحول وتغيير، وتقديم الأمثلة الدالة عليها وإعادة النظر بوجودها في المناهج المدرسية وأدوات التعلم الحديثة التي تربط المتعلمين بالأمثلة الحقيقية التي يستعملونها.
***
- مريم بنت صالح الشويمان/ باحثة دكتوراه وخبيرة في توسيم البيانات