د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
يذكر فهد عاشور في القسم السابع من مقدمات كتابه (الفصحى لغة مصطنعة) مضمون الفصل الأول من كتابه، وهو لا يختلف عن أقوال ذكرها سابقًا، قال «يبحث الفصل الأول من هذه الدراسة عن اللغة الفصحى في أدلة النقوش القديمة، ويحاول استكشاف واقع اللغة العربية كما كان على أرض الواقع في جزيرة العرب وليس كما تخيله كتاب العصر العباسي في العراق... سنرى، من خلال المعلومات التي يوفرها هذا الفصل أن جزيرة العرب لم تكن موطنًا حصريًا للغة واحدة في العصور القديمة هي اللغة العربية وأن هذه اللغة لم تكن مستخدمة، في أفضل الأحوال، إلا على نطاق محدود، وليس في جميع المناطق؛ وأنها لم تكن اللغة الفصحى، بل كانت لهجات بدوية لا يزال بعضها حيًا حتى يومنا هذا ... تكشف لغة النقوش العربية القديمة عن غياب مطلق للغة الفصحى من جميع مناطق جزيرة العرب، وعن حضور بارز لكثير من الكلمات والخصائص اللغوية التي توجد بصفة حصرية في اللهجات العامية المعاصرة. يُقدم هذا الفصل أدلة تثبت أن اللهجة أو واحدة من اللهجات التي تكلمها الأنباط (النبط / النبط) في جنوب بلاد الشام وفي شمال غرب الحجاز هي ذاتها اللهجة البدوية الأردنية - الحجازية المعاصرة (تقريبًا)، وأن شعرهم الذي نظموه هو ذاته الشعر النبطي (البدوي)، الذي لا يزال حيًا حتى اليوم في جميع المجتمعات البدوية في المنطقة العربية. إن محافظة اللهجات البدوية على بقائها، لفترة زمنية قد تزيد على 2000 عام، يؤهلها لكي تكون الممثل الحقيقي والوحيد للغة العربية في العصور القديمة، (ص 19 - 20). يريد منا أن نفهم أن النقوش وحدها الدليل على أن اللغة العربية لهجة بدوية غير معربة وأنها كانت بمنأًى عن اللغة الفصحى (المصطنعة بزعمه)؛ ولكن هذا يصعب فهمه.
يدعي فهد عاشور في القسم الثامن من مقدمات (الفصحى لغة مصطنعة) أن كُتاب العصر العباسي عدّوا الشعر الجاهلي أول وأقدم ممثل للغة الفصحى في التاريخ. وما زالت هذه الدعاية، حسب دعواه، سارية المفعول حتى الآن. وذكر أن الفصل الثاني يهتمّ بمعرفة ما هو حقيقي، وما هو متخيل في هذا الشعر. فـ»تكشف الأدلة المقارنة أن كل شيء في الشعر الجاهلي حقيقي تقريبًا إلا لغته، وأن الشعر النبطي المنظوم باللهجات البدوية هو النسخة الحقيقية (الأصلية) من هذا الشعر، الشعر النبطي هو الممثل الحقيقي والوحيد لشعر القبائل العربية منذ القرن الـ 1م - كما يُثبت نقش عين عبدة» - حتى عصرنا الراهن من دون انقطاع. سنكتشف من خلال معاينة بعض أبيات قصائد الشعر النبطي أن القصيدة الجاهلية لم تمت في مطلع القرن الـ 2هـ/8م، كما زعمت مؤلفات العصر العباسي، بل بقيت حية في موطنها الأم (البادية) حتى بدايات القرن العشرين، (ص 20).
وقال «يتطابق النبطي مع الشعر الجاهلي في كل شيء إلا اللغة: الشعر النبطي منظوم باللهجات البدوية، والشعر الجاهلي منظوم باللغة الفصحى، فيما عدا الفارق اللغوي لا يمكن تسجيل أية اختلافات أخرى، (ص 20). ولا نعلم ما يعنيه باللغة أليست اللغة أصواتًا وصرفًا وتراكيب وكثير من ذلك متطابق بينهما؟
ويحاول أن يستدل بدليل لا يسلم له عند التأمل، فيزعم أن تحويل الأبيات البدوية إلى اللغة الفصحى ممكن جدًّا، كما أنه يمكن إرجاع بعض أبيات مكتوبة باللغة الفصحى إلى أصولها البدوية المفترضة. وزعم أن النتيجة بعد فحص جميع الاحتمالات الممكنة، هي أن النسخة المنظومة من الشعر الجاهلي ليست نسخة أصلية (ص20). ولم يمكن إرجاع بعض الأبيات لا كلها؟ لأنه سيواجه صعوبات في التقديم والتأخير وفي اضطراب المعنى وغياب الجرس، إن تحويل بعض بيوت الشعر النبطي إلى الشعر الفصيح ممكن لأنه مصوغ بمستوى قريب من الفصيح. ويفهم من قوله أن الشعر الجاهلي كان نبطيًّا في الأصل، فما الذي جرى؟
يجيب المؤلف عن السؤال بقوله «لقد تعرض هذا الشعر لعملية (تفصيح) ممنهجة على أيدي اللغويين ورواة الشعر في بداية عصر التدوين في العراق. إذ قاموا بتحويل لغته من اللهجات البدوية (النسخة الأصلية) إلى اللغة الفصحى (النسخة الجديدة)، ثم استخدموها، أي النسخة الجديدة، لإعطاء مشروعية لقواعد اللغة الفصحى؛ ولإثبات صحة تفسيرهم لآيات القرآن»، (ص 20 - 21). والسؤال الذي يلح هو: لم هذا العناء؟ وما ثمرته؟
الطريف أن يستدل بأرجوزة واحدة هي أرجوزة الحج التي أوردها الهمداني في كتابه (صفة جزيرة العرب، ص 235). ومن يقرأ هذه القصيدة لا يتبين دليلًا.