د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
يحلُّ الخميس القادم الثامن عشر من شهر ديسمبر الجاري اليوم العالمي للغة العربية الذي أقرته «اليونسكو» وفي ذلك اليوم يُتوجُ العالم بعبق اللغة العربية تحقيقا لوجودها الممتد كلغة علم وحضارة!
والضاد عند المسلمين قبل تخصيص يومها عالميا حفية أثيرة؛ فهي لغة القرآن الكريم {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}، وهي ذاكرة الأمة الإسلامية ومستودع تراثها! وما يُقام في يوم اللغة العربية لا يعدو إلا أن يكون تصويرا لاستمرار منزلتها في العالم؛ علماء وأدباء ومستشرقين ومجتمعات إنسانية مختلفة، ومازلنا رغم احتفالاتنا نفتقد إلى حزمة من مفاتيحنا الذهبية التي تشرع لنا أبواب كنوز اللغة العربية الملأى حيث تقف العربية في أعماق التاريخ شامخة؛ ولودا مجزية بالاشتقاق،حية تستنطق الوجود بالتصريف؛ وحفية مستوعبة للتعريب؛ فحملت الضاد في إهابها حقائق العلوم والفنون في أدق مصطلحاتهما؛ وتعلقت بها مصابيح الكلام والكتابة الورقية والرقمية ولغة المنابر..
«وسعتُ كتاب الله لفظا وغاية
وما ضقتُ عن آي به وعظات»
وبما أننا نؤمن جميعا أن اللغة العربية هوية ممتدة وليست شكلا ورسما فحسب، فإن الاحتفاء بها في بلادنا وبلدان المسلمين كشْفٌ لحساباتنا مع واقع اللغة العربية، فمازالنا نرقبُ كل عام منصات الإشادة بلغة الضاد وهي محاولة ليتجلى سرورنا وسرورها في يومها العالمي، وقد يُصطفى النخبة ليدبجوا لها بطاقات التمجيد التي هي بها أعلم وأوعى، ولكننا عندما نطوي خيام الاحتفاء لا نرى طحناً؟!
فهناك أزمة ماثلة أمامنا لهذا الجيل مع لغة الضاد، فهم لا يملكون زمام اللغة السليم؛ وليس لديهم محصلة لغوية عربية يشرق لها واقعهم التعليمي ومن ثم تضيء محيطهم الاجتماعي فيسرجون بديع اللغة في واجباتهم المدرسية وبحوثهم الجامعية، ونجم عن فقدان التوظيف الصحيح لمواد اللغة العربية وصياغاتها السليمة أن افتقد هذا الجيل القدرة والشجاعة على التعبير المقنع الموقر، ومن شواهد ذلك التدني في لغة الخطاب الرقمي الذي سدَّتْ وسائطه الآفاق؛ ومن البديهي أنه عندما تضعف اللغة العربية يعلو اللغو لهجات هجينة لا ترى بأسا في ضرب قواعد النحو، وهدم البنى الصرفية وأسس الإملاء!
وحتى نحصد معطيات تتسق مع أهمية المحافظة على اللغة العربية باعتبارها رابطة دينية واجتماعية وفكرية، وحتى نضمن قوة اتصال الأجيال بلغتهم وتمكينها من الحضور الكامل في واقعهم حفاظا على الهوية؛ فلابد من تبني مشاريع علمية من أجل إلحاق اللغة العربية كأداة لفهم الحياة الحديثة من منطلق أن اللغة العربية أداة للتنمية العربية أيضا.
فإننا نأمل من وزارة التعليم التي اندمجت فصائلها لإثراء مفاصلها؛ نأمل أن تشرع الجامعات في تبني دراسة حقيقية تتتبع الواقع اللغوي لطلاب المدارس في كل منطقة تعليمية؛ يُحدد بموجب تلك الدراسة مؤشرات التنامي في مسارات الاستخدام اللغوي الأمثل كما تحدد الانحرافات، وأن لا تستند تلك الدراسات على الأوصاف الشاردة التي لا يمكن أن تقدم أي مؤشرات داعمة لصناعة سياسات تعليمية حافزة تُصلح وتقوّم واقع التلقي والاكتساب اللغوي عند المتعلمين، ومن دعائم إصلاح واقع التلقي وواقع الالتزام اللغوي المجتمعي أيضا أن تتبنى وزارة الثقافة ووزارة الإعلام ضوابط تنظيمية تلزم المتحدثين والمحاورين والمعلقين بالفصحى في جميع المنصات الإعلامية والثقافية وحتى لا يستبد بي الحنين إلى رواق سيبويه والأصمعي لأنني أشك في تناغمهم مع أثير هذا العصر؛ فإنني أطرح أهمية الاستثمار في تعصير اللغة ودعم المحتوى الرقمي العربي من خلال رفع محتويات مجودة مطبوعة على الوسائط الرقمية وتشجيع رفع المدونات العربية ذات الرصانة على الشبكة الرقمية ودعم النشر والإعلان عن تلك المحتويات وجعل الأوعية القرائية عربيّة الأصل والمنشأ والولادة!
يقول الأديب الشيخ عبدالله بن خميس رحمه الله في كتابه المتفرد «من جهاد قلم محاضرات وبحوث» الطبعة الاولى 1405-1984م.
وعلى الغيارى من علماء هذه الأمة وأدبائها مسئولية حمَّلَهُم إياها أسلافهم البررة الذين أخلصوا لهذه اللغة من كل شائبة وريبة، ولم يزالوا قوامين عليها غيارى على حِماها يلقون ما يخدش لغتهم بالنقد اللاذع ويتقبلون ما يأنفونه بالرد الموجع ويلاحقون الواغل الدخيل! ففي هضبة نجد ومرتفعات الحجاز ومناكب السروات قبائل تأبت لغتها على الواكز واللاكز وأنفتْ من اللغة الحضرية الملحونة، فما هو موقفنا من ذلك التراث الضخم في عصر العلوم والفنون والمخترعات وعصر تواشج الأمم وتقاربها واندماجها تريد منا لغتنا وقد علمنا مكانتها أن نتخذ الوسائل الكفيلة برعايتها وحمايتها وجعلها منطلقا لإحياء اللغة العربية سليقة وطبعا في السواد الأعظم على نحو ما كان أسلافنا يعملون وإننا إن شاء الله لفاعلون.