مهدي آل عثمان
شهدت المملكة خلال السنوات الأخيرة تحولاً جوهرياً في نهج إدارة المشاريع الحكومية ومراقبة جودة تنفيذها، وهو تحول لم يكن ليحدث لولا الرؤية الحازمة والواضحة التي انتهجها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- في محاربة الفساد بجميع أشكاله، وربط الجهات الرقابية مباشرة بالمقام السامي لضمان أعلى درجات الشفافية والمحاسبة.
ولعل ما حدث في جدة خلال موسم الأمطار الأخير يعد شاهداً حاضراً على حجم التغيير الذي أحدثته هذه الرؤية، وكيف يمكن لسياسات مكافحة الفساد أن تتحول من شعارات إلى إنجازات تُرى على الأرض، وتمس حياة الناس بشكل مباشر.
فعلى مدى سنوات طويلة، كانت جدة تعاني من أزمة متكررة كلما هطلت الأمطار، إذ تتحول شوارعها إلى مستنقعات، وتتعطل حركة المرور، وتتضرر الممتلكات، بل وصل الأمر في بعض المواسم إلى خسائر بشرية مؤلمة، وقد كانت المشكلة الحقيقية ليست في شدة الأمطار، بقدر ما كانت في سوء تنفيذ مشاريع تصريف السيول، فالمشاريع تُقر على الورق، وتُرصد لها الميزانيات، لكنها لم تُنفذ كما ينبغي، أو نُفذت بطرق مخالفة للمواصفات، ما جعل أي كمية مطر ولو كانت متوسطة، تتحول إلى أزمة كبرى، فكانت جدة مثالاً حياً لما يمكن أن يسببه الفساد من آثار مدمرة حين يتسلل إلى المشاريع الحيوية المرتبطة بسلامة الناس وبنيتهم التحتية.
وحين أعلن سمو ولي العهد -حفظه الله-، حربه الصريحة على الفساد قبل سنوات، لم تكن تلك الحرب مجرد شعارات عابرة، بل كانت تأسيساً لمرحلة جديدة قوامها الرقابة الفعلية، والمحاسبة الجادة، وربط الجهات التنفيذية والرقابية برأس القيادة التي لا تقبل التهاون في حق المواطن، ومع إنشاء هيئات رقابية قوية وتعزيز دور هيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة) وربطها المباشر بالمقام السامي، بدأت المشاريع تُشرف عليها فرق رقابية محترفة، وتُتابع مراحل التنفيذ بدقة، ويُحاسب كل مقصر مهما كانت مكانته.
وقد ظهرت ثمرة هذا التغيير جلية في جدة خلال الأمطار الغزيرة الأخيرة، والتي وصفتها الجهات المختصة بأنها من أعلى المعدلات المطرية التي شهدتها المملكة هذا العام، وربما الأعلى في تاريخ المدينة خلال يوم واحد، ومع ذلك، كانت الصورة مختلفة؛ شوارع رئيسية لم تعد تغرق كما كانت، وأحياء كانت تُعد الأكثر تضرراً سابقاً، أصبحت اليوم أكثر قدرة على تصريف المياه، ومشاهد الانسياب السلس للسيول في الأودية والقنوات المنفذة حديثاً أصبحت حديث المجتمع.
هذه النتائج لم تأتِ مصادفة، ولا هي وليدة تحسن طبيعي، بل هي ثمرة مباشرة لتنفيذ مشاريع تصريف السيول كما ينبغي، وبمواصفات حقيقية، وبإشراف دقيق وضمانات صارمة.
لقد أثبتت جدة اليوم أن مكافحة الفساد ليست فكرة نظرية ولا مطلباً إدارياً فحسب، بل هي ضرورة لحماية حياة الناس، وضمان استدامة المدن، وأهمية أثر التنمية. فحين يُقضى على الفساد، يجد المشروع طريقه إلى النور، وتتحول الميزانيات المرصودة إلى أعمال حقيقية، ويشعر المواطن بالفارق في حياته اليومية. ومشهد جدة بعد هذه الأمطار كان رسالة واضحة لكل من قد يشكك في أثر مكافحة الفساد: إن الفرق بين الأمس واليوم ليس في كمية المطر، بل في جودة العمل.
كما أن متابعة سمو ولي العهد -حفظه الله- الدقيقة للمشاريع، وتعزيز مبدأ المحاسبة، ودعم الجهات الرقابية، ساهم في خلق بيئة جديدة تعتمد على الجودة والكفاءة وليس على المجاملة والالتفاف على الأنظمة. وهي بيئة وضعت حداً لتلك المرحلة التي كانت فيها المشاريع الكبرى تُقر على الورق دون أن تنفذ، أو تنفذ بشكل لا يعكس حجم الإنفاق عليها.
إن نجاح جدة اليوم أمام اختبار الأمطار الأخير هو في الحقيقة- بعد توفيق الله-، هو نجاح لمنظومة رؤية 2030 بكل ما فيها من حوكمة صارمة، ومحاسبة واضحة، وتنفيذ عالي الكفاءة، وهو تأكيد أن المملكة تتقدم بخطى ثابتة نحو بناء مدن أكثر صموداً واستدامة، وهو كذلك رد عملي على من كان يرى أن الفساد أمر لا يمكن القضاء عليه؛ فقد أثبتت القيادة أن الإرادة حين تتوفر، والنظام حين يُطبق، فإن النتائج تُرى على الأرض، ويستفيد منها كل مواطن ومقيم.
وتبقى جدة ما بعد مكافحة الفساد قصة تستحق أن تُروى: مدينة كانت تغرق في الأمطار المتوسطة، فأصبحت اليوم تقف شامخة أمام أمطار لم تشهدها من قبل، بفضل الله ثم رؤية قائد، وحزم إدارة، وشفافية نظام، وإخلاص جهات رقابية أدت دورها كما يجب. وهي رسالة تلخصها الحقيقة التالية:
حين تُحارب الفساد بجدية، فإن الوطن كله ينتصر.
حفظ الله المملكة العربية السعودية قيادة وشعباً وأدام عليها الأمن والاستقرار والازدهار.