م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - تواجه الثقافات الشرقية - ومنها الثقافة العربية - صراعاً بين مكونها الثقافي الأصلي المتوارث ذي التاريخ المجيد، والمكون الثقافي الغربي الذي تشكل بفعل الثورات العلمية والفتوحات المعرفية والصناعات الحديثة التي أنتجت تيارات واتجاهات فكرية جديدة.. وكان لا بد لهذه الثقافات الشرقية من الدخول في تلك الصراعات وأن يكون لها حضور المشارك ولا تكتفي بحضور المشاهد فقط.. فقد اجتاحتها تلك الثقافة الغربية من كافة الجهات، واقتحمت أدق تفاصيل حياتها، وأصبح من المستحيل العيش بعيداً عنها، فنشأ الصراع بين الحداثة والتراث، وأصبح ذلك الصراع ركناً أساسياً في الثقافات الشرقية للمائتي عام الماضية.
2 - الثقافة الغربية تعني التقدم، والتطور، والقفزة النوعية، وكثافة الإنتاج، وكفاءة الأداء، والحريات الشخصية، والتحول المجتمعي (وسمته التفكك).. يقابلها في الثقافة الشرقية الجمود الفكري، وتحجر التقاليد، واحترابية المنافسة، وسيادة الأعراف، والثبات الاجتماعي (وسمته الترابط).. هذا التعاكس والتضاد الذي أدى إلى التوقف جعل الثقافات الشرقية تقف موقف الضعيف والأدنى، فالثقافة الغربية اخترقت الشرق بابتكاراتها من قطارات السكك الحديدية، والكهرباء، والاتصالات السلكية، وآلات البخار، والبرقيات اللاسلكية، وآلات التصوير، والمجاهر، والمكبرات والأسلحة النارية، والمدافع والقنابل، وغيرها من الابتكارات التي نقلت الحياة من حالة الركود التي دامت آلاف السنين إلى قفزة جبارة قلبت الحياة ذاتها، وسَرَّعت من وتيرتها، وقَصَّرت من مسافاتها، وسهلت الحياة اليومية للإنسان، ومكنت الغرب من استعمار العالم.
3 - في الوقت الذي كانت المجتمعات الغربية تعيش فورة التنوير والتصنيع، والاستفادة من المخترعات الجديدة في التوسع في أنحاء العالم واستعماره ونهب ثروته وتسخير شعوبه لخدمتهم، كانت المجتمعات الشرقية تعيش عصورها المظلمة المتخلفة الفقيرة الجاهلة المريضة التي تسيطر فيها الخرافات والغيبيات على العقول وتتحكم في الأفكار والقرارات والسلوكيات.. وأصبح من نتائجها تفشي العنصرية العرقية والتعصب القبلي والمناطقي والمذهبي، والجمود الاجتماعي، والحرب على المختلف، وجعل كل بدعة دنيوية بمكانة الضلالة التي تهوي بصاحبها سبعين دركاً في النار.
4 - في أواخر القرن التاسع عشر استيقظت الشعوب الشرقية على مدى التقدم الصناعي والعسكري للغرب حينما تم استعمار بلادهم والسيطرة على مجتمعاتهم وتحويل أفراده إلى حطب وقود في حروبه، وخدم يُفْلحون أراضيهم ثم يُصَدِّرون ما ينتجونه إلى بلاد الغرب مقابل حق البقاء ليس إلا، أو سيتم تعذيبهم أو قتلهم، فتم استعباد شعوب بكاملها.. دهشة المجتمعات الشرقية من هذا الاختراق الغربي والهيمنة المطلقة والتوسع الاستعماري الناتج عن التقدم الصناعي، واكتشافهم واقع التأخر المتخلف الذي استيقظوا عليه واجه صراعات داخلية.. فالذين يريدون الاحتفاظ بمكتسباتهم التاريخية يقاومون التغيير، ويعتمدون في مقاومتهم على العقول التقليدية والوعاظ الذين قَدَّموا النهضة الغربية على أنها المقابل للانحلال الأخلاقي والتفكك الأسري والابتعاد عن الدين، يقابلهم دعاة النهضة والذين كانوا في المرحلة الأولى من رجال الدين.
5 - في العقد الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين نشط في العالم الإسلامي ثلاثة مفكرين من رجال الدين وهم: جمال الدين الأفغاني «فارسي»، ومحمد عبده «مصري»، وعبدالرحمن الكواكبي «سوري».. وكانت جل دعواتهم وكتاباتهم في موضوع التأخر الذي يعيشه العالم الإسلامي، وكانت وسيلتهم المقترحة لمعالجة ذلك التأخر هي تطهير الدين من الشوائب التي اعترته خلال القرون وأفسدته.. هذه الدعوة أثارت عليهم المستفيدين من بقاء الوضع على حاله، وأججت البسطاء والتقليديين والرعاع، وتم تلويث سمعتهم بشتى التهم.
6 - امتدت روح الدعوة إلى النهوض في المجتمعات العربية والإسلامية مُطْبَقة الأمية آنذاك حتى منتصف القرن العشرين.. ثم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية واستقلال معظم الدول العربية والإسلامية وانتشار التعليم الذي كان يمكن أن يهيئ للنهوض، بدأت في العالم العربي تحديداً مرحلة الثورات والحكم العسكري، فلم تعد القضية تخلفاً أو تقدماً إنما قمعاً، وخوفاً، وحروباً، ومؤامرات، وفساداً، صاحبها اتهام لكل من يدعو للحداثة بأنه تغريبي غايته انحلال الأخلاق وتفكك المجتمع وتَفَلُّت الدين.. مع هذا استمر التيار يدعو للحداثة لكن بالكثير من (التقية) الخائفة لدى البعض، أو (الحداثة الملتوية) - كما يصفها المفكر الإيراني (دارويش شايغان) - الناتجة عن العقل الباطن الذي لا يزال متأثراً بثقافته التقليدية، وينحو إلى تبسيط الأمور وملامسة السطح فقط دون الدعوة إلى الاختراق التصحيحي الحقيقي.