سارة الشهري
تختتم جدة عام 2025 بأجمل المهرجانات والفعاليات التي تسمو بالفن والثقافة والأدب، حيث أقيم مهرجان البحر الأحمر السينمائي في قلب البلد، وسط عبق التاريخ وجمال الهوية الحجازية، كما أقيم معرض جدة الدولي للكتاب الذي جمع باقة مميزة من الأدباء والمؤلفين وصناع المحتوى والمؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي.
هذان الحدثان لم يكونا مجرد فعاليات موسمية عابرة، بل شكلا معاً لوحة ثقافية متكاملة تعكس التحول الحديث الذي تشهده مدينة جدة بوصفها حاضنة للإبداع، ومنصة حوار حية بين الماضي والحاضر، وبين المحلي والعالمي.
هل تخيّلت يوماً أن تشاهد فيلماً سينمائياً داخل قاعات تقع في قلب البلد التاريخية؟
نعم، هذا تماماً ما حدث في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، الذي منح السينما بعدا جديداً يتجاوز قاعات العرض التقليدية. لم يكن اختيار الموقع تفصيلاً جمالياً فحسب، بل رسالة ثقافية عميقة تؤكد أن الفن الحديث قادر على التعايش مع التراث، وأن السينما يمكن أن تنبض بالحياة وسط ذاكرة المكان وتاريخه.
شهد المهرجان عروضاً لأفلام محلية وعربية وعالمية، تنوعت بين الروائي والوثائقي والقصير، مما أتاح للجمهور فرصة الاطلاع على تجارب إنسانية مختلفة ورؤى فنية متباينة. كما شكل المهرجان منصة مهمة لصناع الأفلام السعوديين الشباب، الذين وجدوا في هذا الحدث مساحة للاحتكاك بالمحترفين العالميين، وتبادل الخبرات، وعرض قصصهم المستلهمة من المجتمع المحلي والإنسان السعودي.
ولم يقتصر المهرجان على العروض السينمائية فحسب، بل امتد ليشمل ندوات حوارية، وورش عمل، ولقاءات مع مخرجين وممثلين ومنتجين من مختلف دول العالم. هذه الفعاليات عززت من قيمة المهرجان كمشروع ثقافي متكامل يهدف إلى بناء صناعة سينمائية مستدامة، لا مجرد حدث ترفيهي عابر. كما أسهم الحضور الإعلامي العالمي في تسليط الضوء على جدة كمدينة قادرة على تنظيم فعاليات ثقافية بمعايير دولية. وبالتوازي مع أجواء السينما، افتتح معرض جدة الدولي للكتاب، فاصطحبت كعادتي السنوية أطفالي لزيارته. إلا أن المفاجأة هذا العام كانت لافتة، إذ أبهرتني كثافة حضور المؤثرين، وخصوصاً (اليوتيوبرز) وتسويقهم لكتبهم، وقدرتهم على جذب متابعيهم لا سيما من فئتي الأطفال والمراهقين لاقتناء تلك الكتب. ولا أخفيكم انعكست الآية، فبدلاً من أن يسألني أطفالي، أصبحت أنا من أسألهم: من هذا؟ ومن ذاك؟
حقيقة أعجبتني الفكرة كثيراً، فنحن لا نستطيع إنكار أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت الوجهة الأولى للترفيه لدى الجميع، وإذا أردنا جذب أقوى فئتين في المجتمع إلى القراءة (الأطفال والمراهقين) فإن الاستعانة بهؤلاء المؤثرين تبدو خطوة ذكية بلا أدنى شك، إذ أسهموا في الترويج للكتب والقراءة بلغة قريبة من الجيل الشاب، وخلقوا جسراً حقيقيا بين الثقافة التقليدية وأدوات العصر الحديث. هذا التلاقي بين الأدب والسوشيال ميديا يعكس وعياً متزايدا بأهمية مواكبة التحولات الإعلامية دون التفريط في جوهر المعرفة.
تميز المعرض هذا العام بتنوع برامجه الثقافية، من الندوات الإثرائية، وجلسات النقاش حول الأدب والرواية والفكر، إلى الأمسيات الشعرية ولقاءات توقيع الكتب، إضافة إلى ورش تناسب جميع الأذواق، مثل الترجمة والموسيقى والقصص المصورة، وكلها تهدف إلى غرس حب القراءة وتعزيز العلاقة مع الكتاب. والأجمل كان عرض الأفلام السعودية داخل المعرض، كسابقة نوعية تجمع بين الأدب والسينما في مساحة ثقافية واحدة.
حقاً جدة دائماً غير، فهي المدينة التي جمعت بين الفنون والأدب، وأصبحت بوابة للإبداع. وما يجمع بين مهرجان البحر الأحمر السينمائي ومعرض جدة الدولي للكتاب ليس فقط التوقيت أو الموقع الجغرافي، بل الرؤية الثقافية التي تقف خلفهما. فكلا الحدثين يعكسان توجهاً واضحا نحو تعزيز مكانة جدة كوجهة ثقافية وسياحية، وكمركز إشعاع فني وأدبي على مستوى المنطقة.
وهكذا، تودع جدة عامها وهي أكثر إشراقاً، محملة برسائل الفن والمعرفة، ولا تكتفي بأن تكون شاهدة على التاريخ، بل تصنعه، وتكتب فصوله الجديدة بالفن، والكتاب، والإنسان.