د.زيد محمد الرماني
لا شيء يجعل منا بشراً حقيقيين مثل مواجهتنا للمعضلة، تلك الحالة من الحيرة الشديدة التي نجد أنفسنا فيها عندما تتحطم مسلماتنا، وتتحوّل إلى أشلاء، وعندما نرى أنفسنا فجأة أمام طريق مسدود، واقعين في حيرة من أمرنا تجاه شرح ما يظهر أمام أعيننا، وما يمكن لأصابعنا أن نلمسه، وما يمكن لآذاننا أن تسمعه.
في تلك اللحظات النادرة؛ حيث يحاول عقلنا أن يستوعب بصعوبة ما تنقله إليه الحواس، تدفعنا هذه المعضلة إلى التواضع، وتجعل العقول الفذة قابلة لاستيعاب الحقائق التي لم تكن نطيقها من قبل. وعندما تلقي المعضلة بشباكها على القاصي والداني لتوريط الإنسانية جمعاء، ندرك -حينها- أننا نعيش اليوم في خضم إحدى اللحظات الفذة للغاية في التاريخ. كان سبتمبر 2008 مجرد لحظة من تلك اللحظات التاريخية.
يقول يانيس فاروفاكيس في كتابه (المينوتور العالمي): يسعى هذا الكتاب أصلاً إلى إيجاد استعارة مفيدة لتفسير عالم مضطرب، عالم لم يعد بالإمكان فهمه بدقة بواسطة النماذج التي هيمنت على تفكيرنا قبل الأزمة المالية العالمية لعام 2008.
ويهدف كذلك للتواصل مع القارئ غير المتخصص الذي يمكنه من خلال استعارتي البعيدة عن السطحية التعرّف على المأساة العالمية المعقدة للغاية.
إذ لم تأت هذه الفكرة لإلغاء جميع التفسيرات الأخرى، بل لتقوم بدلاً من ذلك بتوفير منصة، تجمع بين العديد من التفسيرات المختلفة، التي تُعد جميعها صالحة وفقاً لمنطقها الخاص، للوصول إلى تحليل شامل «للترتيبات» العالمية التي تحطمت وتلاشت في عام 2008، تاركة عالمنا في حالة من خيبات الأمل والذهول.
ثم يقول لقد: استلهمت استعارة المينوتور العالمي في عام 2002، بعد محادثات طويلة للغاية مع الزميل والمؤلف المشارك جوزيف هاليفي.
إذ كانت نتيجة مناقشاتنا بشأن الشيء الذي جعل العالم مديوناً بعد الأزمات الاقتصادية في السبعينيات، وجهة نظر متماسكة، على الرغم من تعقيدها النظام الاقتصادي العالمي الذي لعب في كل من العجز الأميركي، ووول ستريت، وتراجع القيمة الحقيقية باستمرار للأجور الأمريكية، دوراً مميزاً ومهيمناً أيضاً؛ لتكتمل المفارقة.
ثم يؤكد يانيس: كان جوهر حجّتنا يقوم على أن السمة المميزة لحقبة ما بعد عام 1971 كانت في عكس اتجاه تدفّق التجارة وفوائض رؤوس الأموال بين الولايات المتحدة وبقية العالم.
حيث عززت البلد المهيمن، ولأول مرة في العالم في التاريخ، من هيمنته من خلال توسيع عجزها وزيادته عمداً. كانت الخدعة تقوم على فهم كيفية إنجاز أمريكا لهذا. وكان جزء من الخدعة نشر سردية المينوتور العالمي، والتي ولدت كمحاولة لتسهيل تعقيد هذه الحجّة.
يقول يانيس: وعندما انفجر النظام المالي بعد خمس سنوات، في عام 2008، حرضني هذا على كتابة هذا الكتاب اعتماداً على قدرة الاستعارة الرئيسة على إيصال قضيتي المعقدة لعدد كبير من القراء العاديين.
وفي أثناء كتابة المسودة الأولى للكتاب، بدأت سمعتي تسوء بدرجة ما في ووسائل الإعلام اليونانية والدولية كشخص يتوقع الكارثة، ولا يؤمن أنه لا مفر من إفلاس اليونان وحسب، بل يعد ذلك مقدمة لتفكك منطقة اليورو أيضاً.
عندها -فقط- لاحظت السخرية في استخدام استعارة يونانية (استعارة المينوتور) لتفسير الكارثة العالمية التي سيتعرض اليونان للضربة الأسوأ فيها؛ ليكون أكثر الضحايا تضرراً.
يستمر يانيس قائلاً: كان الخطر المحتمل أن يتسلسل تأثير القوة المجازية للمينوتور العالمي خفية إلى كلّ من تحليلاتي وتنبؤاتي، خصوصاً حين الانتهاء من الكتاب (قرابة يناير 2011)، في النقطة التي شعرت حينها أنني مضطر للتصريح بتوقعاتي لمستقبل الاقتصاد العالمي، تزايد القلق من أن تكون استنتاجاتي قد خطفت؛ لتقع تحت التأثير الذي لا يُقاوم للبقاء وفياً للاستعارة التي اخترتها.
يقول يانيس: أشار الاستقبال الحار للكتاب في مناطق مختلفة من العالم في حقيقة الأمر أنني قد وقعت على منجم غني.
ومع ذلك، عندما اقترح ناشري بعد عام أن أعيد النظر في النص لنشر طبعة حديثة، قمت باستغلال الفرصة، لإجراء بحوث جديدة، لنفسي بالدرجة الأولى، بهدف اكتشاف إذا ما صمدت الفرضية التي وضعتها «فرضية المينوتور العالمي» أمام اختبار الزمن على نطاق عالمي.
وكانت النتيجة ذلك الفصل الجديد الذي يبدأ بذكر الحقائق التي دحضت سرديتي، قبل دراسة الوقائع الفعلية الكامنة في الإحصاءات المنشورة رسمياً.
بات من الآمن اليوم -لحسن الحظ- أن أعلن أن «فرضية المينوتور العالمي» اجتازت الاختبار التجريبي بنجاح.