د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
يذكر فهد عاشور في القسم التاسع من مقدمات كتابه (الفصحى لغة مصطنعة) أن غياب أدلة تثبت وجود اللغة الفصحى في نصوص النقوش القديمة، واستحالة أن تكون النسخة الأصلية من الشعر الجاهلي منظومة بهذه اللغة، يقتضي إعادة النظر في معاني المصطلحات الأساسية المكونة لعبارة (اللغة العربية الفصحى)، وفي كيفية تطورها. ولذا يعالج في الفصل الثالث من كتابه ثلاثة المصطلحات التي كونت وعي العرب باللغة التي ظنوها لغتهم الأم، وهي: (الفصاحة)، (العرب)، و(العربية). فيزعم في هذا الفصل اعتمادًا على الأدلة النصية، كما يرى، أنّ لهذه المصطلحات معنيين مختلفين؛ الأول أصليّ كان مستخدمًا في جزيرة العرب، والآخر جديد نشأ وتطور في العراق. ويتّهم النَّحويّين واللّغويّين في العراق بتجاهل المعاني الأصليّة لهذه المصطلحات لأسباب لغويّة ودينيّة – وبأنّهم اتّخذوا المعاني الجديدة، التي سادت مع مرور الزمن، بدعم غير منقطع من المؤسّستين اللغويّة والدينيّة حتّى تحوّلت إلى حقائق لا يرقى إليها الشكّ.
ووعد بأنّ تسليط الضوء على المعاني الأصليّة لهذه المصطلحات سيساعدنا في الخروج باستنتاجات مهمّه للغاية منها «أنّ العرب لم يكونوا أهل فصاحة وبلاغة، وفقا للدعاية السائدة، وأنهم لم يمتلكوا مقدرة لغويّة فائقة كما جرى تصويره في العراق. لقد كانوا قبائل بدويّة بسيطة ناطقة بلهجات بدويّة، أو بلهجات بدائيّة غير مفهومة»(ص 22). وهو بهذا يلغي كون العرب منهم الحضر ومنهم أهل البدو الرحّل، وهو بالضرورة ينكر المدن والقرى المستقرّة في أنحاء الجزيرة، وهو يلغي كونهم أهل فصاحة وبلاغة على الرغم من أشعارهم وخطبهم وأمثالهم، وعلى الرغم من أبلغ نصّ خوطبوا به حاملًا رسالة سماويّة لهدايتهم، وهو يناقض نفسه بعد قليل بقوله «لقد كان مجرد النطق بكلام يمكن فهمه إنجازا بالنسبة لسكان جزيرة العرب استدعى وجود مصطلح خاص للتعبير عنه (الفصاحة). يشير معنى (الفصاحة) في جزيرة العرب، وفي نص القرآن إلى (الإفهام)»(ص 22). وهكذا هم، في زعمه، غير فصحاء ولهجاتهم غير مفهومة ثم يشير مصطلح الفصاحة عندهم إلى الإفهام، ولو تأمل في الآية التي يشير إليها وهو قوله تعالى (وأخي هارون هو أفصح مني لسانًا) [القصص: 34] لتبين له أنها تثبت فصاحة موسى وإن كان هارون أكثر منه فصاحة، وهو وضع خاص بعقدة لسان موسى (واحلل عقدة من لساني) [طه: 27].
ثم يقول ما لا دليل عليه «إن ارتباط معنى الفصاحة بالإعراب وباللغة المعربة (اللّغة الفصحى) بالمعنى المتعارف عليه هو اختراع عراقي محض، لا صلة لسكّان جزيرة العرب به»(ص 22).
وانتقل إلى الكتابة فقال «ما ينطبق على تواضع بدائيّة اللّغة المنطوقة في جزيرة العرب، ينطبق على اللّغة المكتوبة أيضا... لم تمتلك، عبر تاريخها، أبجديّة عربيّة معياريّة، ولا نظام كتابة عربيّا حتى زمن نزول القرآن. يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار حقيقة أن الخطّ العربيّ قد ظهر إلى حيز الوجود في بداية القرن الـ6م، أي قبل 70 عاما فقط من ولادة النبيّ محمّد سنة 570م. حين ظهر الإسلام في مطلع القرن الـ7م، وقدم نفسه للناس كدين كتابيّ اصطدم منذ البداية بتخلّف العرب اللّغويّ على الصعيدين النطقيّ والكتابيّ باختصار، لم تكن الإمكانات اللّغويّة المتاحة في جزيرة العرب كافية لدعم نشوء دين كتابيّ يعتمد في وجوده على الكتابة (كتاب) والقراءة (قرآن). لهذا السبب، سعى القرآن، بدأب، إلى حلّ مشكلة العرب اللغوية في السنوات الأولى من عمر الوحي»(ص 22-23). وغاب عن المؤلف أن العرب أمة اعتمدت على توارث إنتاجها الأدبيّ مشافهة، ولم تكن تلجأ إلى الكتابة إلا في الضرورات، ونبيهم أميّ أنزل عليه القرآن ليتلوه ليسمع ويحفظ واستمر تلقي القرآن بالسماع إلى يومنا هذا، إلا من لا يطيق ذلك، وكان الخوف من ضياع القرآن هو الدافع لتدوينه في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والدين الإسلاميّ ليس معتمدًا على الكتابة في المقام الأول بل على السماع أولًا؛ فكان السماع أصلًا من أصول اللغة وقواعدها. ولأن السماع هو الأصل لم تكن أصول المصاحف المكتوبة منقوطة إعجام ولا إعراب. والكتابة معروفة قبل التنزيل، جاء ذكرها في الشعر الجاهلي، قال لبيد:
فَمَدَافِعُ الرّيّانِ عُرِّيَ رَسْمُها...
خَلَقًا كما ضمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا
قال أبو بكر ابن الأنباري «الوحِيّ: جمع وحْي، وهو الكتاب، أي عُرّي خلقًا كالكتاب الذي ضمنت الصخور. والمعنى: آثار هذه المنازل كأنها كتاب في حجارة»(1).
وجاء في الحديث «كان ناس من الأسرى يوم بدرٍ لم يكن لهم فداءٌ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فداءَهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابةَ»(2).
ويختم المؤلف هذا القسم بالزعم أن القرآن عرّف العرب على مفهوم اللغة وأنه بسببه صار لديهم أبجدية معيارية، يقول ذلك على الرغم من أنه يصف القرآن بأنه غير معرب، ويقول بطرافة «يقدم القرآن حلولا لمشكلات لغوية نطقية وكتابية مزمنة، عانت منها القبائل العربية على مدى زمني يقدر بحوالي 1400 عام سبقت نزوله ويضع لغته - الأبجدية الواضحة نطقًا وكتابة - في مرتبة سامية جدا مقارنة بلسان (لغة) العرب، الذي يصفه بأنه (أعجمي)، أي غير مفهوم»(ص23). أي مشكلات نطقية مزمنة يزعم في قوم يشهد القرآن لهم بالبلاغة حين تحداهم بما هو أبلغ من بلاغتهم، وأما الأعجمي فليس لسان العرب كما توهم، قال الطبري «القول في تأويل قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل : 103]، يقول تعالى ذكره: ولقد نعلم أن هؤلاء المشركين يقولون، جهلًا منهم، إنما يعلم محمدًا هذا الذي يتلوه بشر من بني آدم، وما هو من عند الله، يقول الله، تعالى ذكره، مكذّبهم في قيلهم ذلك: ألا تعلمون كذب ما تقولون، إن لسان الذي تلحدون إليه: يقول: تميلون إليه بأنه يعلم محمدًا أعجميّ، وذلك أنهم فيما ذُكر كانوا يزعمون أن الذي يعلِّم محمدًا هذا القرآن عبد روميّ، فلذلك قال تعالى (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) يقول: وهذا القرآن لسان عربيّ مبين»(3).
وآخر الأثافي قوله إن عبارة لسان عربي مبين لا تعني لغة عربية واضحة كما ظن النحويون والمفسرون في العراق، بل كانت تعني لغة أبجدية واضحة، فكلمة «العرب» كانت تعني «الحرف» في جزيرة العرب، ولم تكن تعني «جماعة إثنية» كما فهمت في العراق.
والحق أن الحرف يطلق حقيقة على الصوت المنطوق ومجازًا على رسمه المكتوب. والقرآن لم ينزل مكتوبًا لا بأبجدية واضحة ولا غامضة بل نزل صوتًا مسموعًا.
**__**__**__**__**__**
(1) شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات لابن الأنباري، ص: 519.
(2) مسند أحمد تحقيق: شاكر ، 3/ 20.
(3) جامع البيان للطبري، تحقيق: شاكر، 17/ 298.