«الجزيرة» - محمد العشيوي:
لا يتعامل فيلم «الست» مع سيرة أم كلثوم بوصفها أرشيفيا زمنيا باردا، بل يختار مدخلًا إنسانيًا هشًّا يبدأ من لحظة سقوطها على خشبة مسرح الأولمبياد في العاصمة الفرنسية باريس عام 1967 لم يكن السقوط هنا نهاية، بل بوابة للذاكرة، وعتبة سردية تعيدنا إلى رحلة طويلة من الصعود، امرأة تعثرت أمام العالم، لكنها لم تسمح للحظة ضعف أن تهزم تاريخًا صنعته بالصوت والانضباط.
يعود الفيلم إلى الطفولة الأولى في مطلع القرن العشرين، إلى الريف المصري، حيث الفقر والحياة الزراعية، وحيث كان الصوت أكبر من المكان تظهر أم كلثوم طفلة ترتدي زي الرجال، لا تمرّدًا بل امتثالًا لعادات مجتمع لا يسمح للمرأة بالظهور، في صورة تلخّص مبكرًا صراعها مع المجتمع، ومع صورة المرأة في المجال العام، هذا التفصيل البصري يضع الأساس لشخصية ستقضي حياتها كلها تفاوض المجتمع، وتعيد تعريف حضور المرأة على المسرح.
يتدرج السرد نحو العشرينيات، حيث يكبر الصوت وتكبر معه الطموحات، وتدخل أم كلثوم فضاءً جديدًا تلتقي فيه الموهبة بالثقافة، علاقتها بأحمد رامي، التي شكّلت أحد أهم مفاتيحها الوجدانية.
منى زكي تكسب الرهان
أحد أبرز أعمدة الفيلم يتمثل في أداء منى زكي، التي اختارت ألا تقدم تقليدا صوتيا أو شكليا، بل اشتغلت على الجوهر النفسي للشخصية، حيث خضعت لتدريبات طويلة لم تكن تقنية فحسب، بل ذهنية وإنسانية، لفهم كيفية سيطرة أم كلثوم على الخشبة قبل أن يبدأ الغناء، في مشاهد الصمت، والنظرات، والانكسار المكتوم، يتجلى نضج الأداء، خصوصًا في لحظات المرض والعزلة، حيث جاء الألم هادئًا، وحقيقيا، بعيدًا عن الاستعراض.
وفي مشهد السقوط في باريس، تتكثف فلسفة الأداء، إذ لا تركز منى زكي على التعثر ذاته، بل على ما بعده استعادة التوازن، والابتسامة، والقرار الصامت بالاستمرار هنا، تختصر الشخصية مسيرة كاملة لامرأة لا تسمح للانكسار بأن يكون تعريفها الأخير.
رؤية بصرية بين الإخراج والحنين
على مستوى الإخراج، ينسج مروان حامد سردًا مرنًا يعتمد على الذاكرة، مدعومًا بموسيقى تصويرية تستدعي أعمالًا خالدة مثل الأطلال، وأنا في انتظارك وأنت عمري، لا بوصفها حنينًا فقط، بل كامتداد درامي لصوت شكّل وجدان أمة. ورغم جمال السرد، يبدو فيلم الس في لحظات عديدة أكثر انجياز (للنوستالجيا) على حساب الأسئلة الصعبة، فهل اكتفى بتأليه الأسطورة أم حاول إيلامها؟ أعاد العمل أم كلثوم كأيقونة مكتملة، لكنه لم يقترب بما يكفي من المرأة التي تحدت زمنها، ودفعت ثمن الاختيار الشخصي والإنساني. هذه المسافة بين الرمز والإنسانة تفتح بابًا لنقاش أوسع، يتجاوز الحنين إلى مساءلة السيرة نفسها.
يختتم الفيلم بمشهد الجنازة على أنغام (ألف ليلة وليلة) في لقطة أسطورية تشع فيها مرحلة كاملة من التاريخ العربي هناك لا نودّع صوتا فقط، بل نغلق فصلًا من الوجدان، ونبقى أمام سؤال مفتوح: هل نحب أم كلثوم لعظمتها وحدها، أم لأن خلف هذه العظمة امرأة تألمت واختارت، ودَفعت الثمن؟
ويحمل الفيلم الذي أخرجه مروان حامد، توقيع الكاتب حمد مراد في التأليف، ويشارك في بطولته نخبة من أبرز نجوم السينما العربية، يتقدمهم منى زكي، إلى جانب خالد صالح وسيد رجب وعمرو سعد، وتامر نبيل، ونيللي كريم، حيث يجتمع هذا الطاقم في عمل درامي سينمائي غني يعتمد على إنتاج ضخم ورؤية إخراجية تسعى إلى تقديم سيرة أم كلثوم بأسلوب معاصر يجمع التوثيق الفني والطرح الإنساني.
وجاء الفيلم برعاية الهيئة العامة للترفيه (GEA)، و «موسم الرياض» وصندوق «Big Time» للأفلام، في حدث فني يعكس مكانة العمل وأهميته على مستوى الإنتاج السينمائي العربي.