مهدي آل عثمان
يمثل دليل الاستثمار الأمثل لشاغلي الوظائف التعليمية أحد أهم التحولات التنظيمية التي أطلقتها وزارة التعليم في مسار تطوير الميدان التربوي، باعتباره إطاراً تنظيمياً ملزماً يضمن حسن توظيف الطاقات البشرية وتحقيق العدالة المهنية، ويرفع كفاءة التشغيل داخل المدارس بما ينسجم مع توجهات الدولة نحو تطوير التعليم كركيزة أساسية لرؤية المملكة 2030. وقد جاء هذا الدليل مبنياً على تعميم معالي وزير التعليم، ليكون مرجعاً واضحاً لإدارة الموارد البشرية داخل المدارس بعيداً عن الاجتهادات الفردية والتفاوت الكبير الذي كان يسبّب خللاً في الأنصبة وتوزيع الجداول.
لقد عاشت المدارس خلال الأعوام الماضية حالة من التباين في توزيع المعلمين، حيث ازدحمت بعض المدارس، خصوصاً مدارس المرحلة الابتدائية، بعدد كبير من المعلمين يفوق الاحتياج الفعلي، بينما واجهت مدارس أخرى في المرحلتين المتوسطة والثانوية نقصاً واضحاً أدى إلى ارتفاع الأنصبة وإرهاق بعض المعلمين. وتزايد هذا الخلل بعد إغلاق إدارات التعليم في المحافظات وانتقال عدد من المشرفين التربويين إلى الميدان، ما أدى إلى تكدّس فعلي لمعلمي المرحلة الابتدائية في بعض المدارس، مقابل ارتفاع نصاب معلمي المراحل الأعلى إلى مستويات غير عادلة ولا تنسجم مع أهداف التطوير.
وفي واقع الميدان، يظهر الفارق بوضوح؛ فبينما يعمل بعض معلمي المرحلة الابتدائية بنصاب يتراوح بين 5 إلى 8 حصص أسبوعياً، نجد معلمي المتوسطة والثانوي يحملون أنصبة قد تصل إلى 24 حصة، وهو ما ينعكس على نفسية المعلم، وجودة أدائه، واستقرار الحصص، ويشكّل فجوة تحتاج إلى معالجة جذرية.
ومن هنا جاء الدليل ليؤكد أن المدارس ليست وحدات منفصلة، بل منظومة مترابطة يجب أن تتشارك في سد العجز، وتحقيق التوازن، والاستفادة من فائض معلمي المرحلة الابتدائية في دعم المدارس الأخرى القريبة أو حسب ما تقتضيه المصلحة التعليمية العامة، وفق الاحتياج الفعلي.
وقد جاء الدليل لمدراء المدارس بإتاحة صلاحيات أكثر وضوحاً في التنسيق مع إدارات التعليم وشؤون المعلمين لتفعيل الاستفادة من المعلمين الفائضين، وهو ما يجعل الإجراءات أسرع وأكثر استجابة للواقع الفعلي للميدان، ويقلل من الحلول البديلة أو المؤقتة.
هذا التنظيم لم يأتِ لمعالجة العجز فقط، بل ليحقق عدالة وظيفية تمنح كل معلم نصاباً متوازناً يضمن جودة أدائه واستدامة عطائه، ويجنب البيئة المدرسية الشعور بعدم التكافؤ أو تفاوت الأعباء.
ويتجاوز أثر هذا الدليل حدود تحسين التوزيع الداخلي للمدارس، إذ يُعد أداة مهمة في تعزيز كفاءة الإنفاق التي تستهدفها رؤية المملكة 2030. فالتعليم قطاع ضخم، وتوزيع المعلمين بطريقة غير متوازنة أو ترك فائض منهم دون استثمار فعلي يمثل هدراً للموارد البشرية، لا ينسجم مع توجهات الدولة في ترشيد الإنفاق وتعظيم الاستفادة من القوة البشرية دون زيادة الأعباء المالية.
وبفضل هذا الدليل، يتم الاستفادة من المعلمين الموجودين فعلاً لسدّ الاحتياج بدلاً من طلب وظائف إضافية أو حلول مكلفة، وهو ما ينعكس مباشرة على كفاءة الإنفاق، ويرفع كفاءة التشغيل، ويجعل كل حصة دراسية وكل ساعة عمل مستثمرة بالشكل الأمثل.
كما ينعكس تطبيق الدليل إيجاباً على الطالب، فالمدرسة المستقرة التي تُدار فيها الأنصبة بعدالة تعمل بفعالية أعلى، وتمكّن المعلم من أداء دوره دون إرهاق أو فراغ.
فالمعلم الذي يعمل ضمن نصاب معتدل قادر على التحضير والمتابعة والتقويم، ويبني علاقة تعليمية أفضل داخل الفصل، ويتعامل مع الطلاب بجودة أكبر. وفي المقابل، يقل اعتماد المدارس على الانتظار أو دمج الحصص أو الاستعانة بحلول عاجلة تؤثر سلباً على المسار التعليمي.
ويتجلى أثر الدليل أيضاً في تمكين الإدارة المدرسية، إذ أصبحت القرارات المتعلقة بتوزيع المعلمين وسد العجز وتوازن الأنصبة مبنية على ضوابط واضحة تضمن العدالة والموضوعية. وهذا يعزز من كفاءة الأداء الإداري ويجعل المدرسة أكثر قدرة على التعامل مع التحديات اليومية، وأكثر انسجاماً مع الضوابط العامة للوزارة.
إن تطبيق دليل الاستثمار الأمثل هو خطوة عملية نحو تحقيق التوازن في الميدان التعليمي، وتحسين استخدام الموارد البشرية، وتحقيق العدالة بين المعلمين، ورفع جودة التعليم داخل المدارس. وهو دليل يتجاوز فكرة معالجة العجز اللحظي إلى تأسيس ثقافة جديدة في إدارة التعليم تعتمد على الكفاءة والعدالة وكفاءة الإنفاق، بما يرفع مستوى المخرجات ويرسّخ روح العمل المؤسسي داخل المدارس.
ومع استمرار تطبيقه بوعي وحرص، سيشهد التعليم مرحلة أكثر اتزاناً وعدالة، وستستفيد المدارس من كافة طاقاتها البشرية، وسيتعزز دور المعلم بوصفه حجر الأساس في بناء جيل المستقبل، بما ينسجم مع طموحات الرؤية ويحافظ على جودة التعليم واستدامته.