مهدي آل عثمان
يُعدّ منبر الجمعة أحد أهم المنابر المؤثرة في تشكيل وعي المجتمع السعودي، بوصفه نافذة أسبوعية يجتمع فيها الناس على كلمة سواء، ويستمعون إلى خطاب ديني يحمل رسالة سامية تهدف إلى تزكية النفوس، وتقويم السلوك، وتعميق القيم الأخلاقية والوطنية.
ومع تطور الحياة وتسارع الأحداث واتساع مساحة التأثير الإعلامي والثقافي، أصبح من الضروري أن يواكب خطاب الجمعة هذا التحول، وأن يتجدد في مضمونه وأسلوبه ليبقى قريباً من الناس، معبّراً عن احتياجاتهم، وملامساً لقضاياهم اليومية والقضايا الاجتماعية، ومحافظاً على رسالته الشرعية الأصيلة.
إن وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد تبذل جهوداً واضحة في الإشراف على المساجد ومتابعة الخطباء وتوجيههم، إلا أن المرحلة الراهنة تستدعي خطوة إضافية تُعنى بالارتقاء بجودة الخطاب الديني، وذلك من خلال تبني برامج تدريبية متخصصة واحترافية تستهدف رفع مهارات الخطباء في الإلقاء وإدارة المنبر وصياغة الخطب. فالكثير من الخطباء يملكون ثروة علمية مشهودة، إلا أن بعضهم يحتاج إلى تطوير أدواته في التواصل، ومعرفة كيفية إدارة الوقت، وترتيب الأفكار، وصياغة مضمون الرسائل بطريقة سلسة وجاذبة، خصوصاً في ظل تفاوت ثقافات المصلين وتنوع احتياجاتهم.
إن التدريب في هذا المجال ليس ترفاً، بل ضرورة تفرضها حساسية المنبر وخطورته وتأثيره المباشر في الناس. فمهارات الإلقاء الجيد لا تقل أهمية عن العلم الشرعي نفسه، إذ إن الرسالة قد تكون صحيحة من حيث المحتوى، لكنها تضعف أو تضيع قيمتها إذا لم تُقدّم بأسلوب مؤثر وواضح.
وقد أثبتت التجارب في مختلف القطاعات أن التدريب المتخصص يرفع كفاءة الأداء بنسبة كبيرة، ويمنح صاحب المهنة الثقة والقدرة على التطوير المستمر، ولذلك فإن البرامج التدريبية التي تُعنى بالصوت، ولغة الجسد، والتنفس، وضبط مخارج الحروف، وتنظيم الأفكار، وكتابة الخطبة بلغة معاصرة واضحة، تعدّ ضرورة حقيقية في تطوير أداء الخطباء.
كما أن أحد الجوانب المهمة التي ينبغي التركيز عليها هو انتقاء موضوعات الخطب بما يلامس الشأن الاجتماعي وقضاياه الملحة.
فالمنبر ليس فقط لطرح الموضوعات التقليدية، بل هو مساحة يمكن من خلالها تعزيز الوعي بالقيم المجتمعية، كالأسرة، والاعتدال، ومحاربة الإسراف، واحترام الأنظمة، والتوعية من المخاطر الاجتماعية، وتعزيز الانتماء الوطني، والالتفاف حول القيادة، والابتعاد عن السلوكيات السلبية بين الشباب، وتربية الأبناء، والحد من العنف الأسري، والحفاظ على الذوق العام، وغيرها من الموضوعات المهمة ذات الشأن الاجتماعي. وعندما تخاطب الخطبة واقع الناس وتربط النصوص الشرعية بمشكلاتهم اليومية، فإن أثرها يصبح أعمق وأكثر استجابة.
ومن الضروري كذلك تحديد زمن الخطبة بدقة وعدم ترك الأمر لاجتهاد الخطيب وحده، فالإطالة المفرطة قد تؤدي إلى فقدان التركيز، وتشتيت المستمعين، وإضاعة المقصد الأساسي، بينما الخطبة المتوازنة المختصرة تحقق الهدف وتصل إلى القلب مباشرة. وتحديد وقت مناسب ليس تقييداً للخطيب، بل هو جزء من تنظيم العملية الدعوية والارتقاء بجودتها. ويمكن للوزارة إصدار دليل إرشادي يوضح الزمن المقترح، والبنية الخطابية، وطريقة تقديم الموضوع دون تكرار أو خروج عن الفكرة الأساسية.
ومن التوصيات المهمة أيضاً وضع برامج تقييم دورية لأداء الخطباء، تعتمد على معايير واضحة تشمل جودة الإلقاء، والتزام الوقت، وانتقاء الموضوعات، وإيصال الرسالة بوضوح، ومراعاة فئات المجتمع كافة. كما يمكن منح امتيازات للخطباء المتميزين، وإشراكهم في ورش تدريبية متقدمة، والاستفادة من خبراتهم في تطوير الآخرين، مما يخلق بيئة تنافسية إيجابية تسهم في تحسين جودة المنبر بشكل عام.
وفي ظل النهضة الشاملة التي تعيشها المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - فإن تطوير المنبر الديني يتسق مع مسار الدولة في تعميق الوعي، ومحاربة التطرف، وتعزيز الوسطية، وترسيخ القيم الوطنية التي ترفع مستوى الوعي المجتمعي وتدعم رؤية المملكة 2030 في بناء مجتمع واعٍ ومتكامل. فالمنبر جزء من البناء الوطني، والخطيب شريك في صناعة الوعي، ورسالة الخطبة شريان يغذي القيم في المجتمع.
إن منبر الجمعة أمانة عظيمة، والخطبة رسالة ثقيلة، والخطيب سفير للدين في المجتمع. ولأجل أن يبقى هذا المنبر قويًاً ومؤثراً ويؤدي رسالته باحترافية عالية، فإن تدريب الخطباء، وتطوير قدراتهم، وانتقاء موضوعاتهم، والالتزام بالوقت، لم يعد خياراً، بل واجب مهني وشرعي يحقق مصلحة الدين والوطن معاً. والوزارة بخبرتها وقدرتها التنظيمية مؤهلة لقيادة هذا التحول بما يليق بمكانة المنبر ورسالة المسجد في المجتمع السعودي.