د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
يذكر فهد عاشور في القسم العاشر من مقدمات كتابه (الفصحى لغة مصطنعة) وهو آخر أقسام مقدماته، أنّ العرب يجزمون جزمًا أن الفصحى لغة طبيعية حيَّة، وأنه سيتبين في الفصل الرابع من الكتاب أن اللغة الفصحى تعجز عن تقديم أدلة مادية تكفي لتصنيفها لغة طبيعية. فهذه اللغة، في زعمه، لا يمكن للأطفال اكتسابها ولا هي لغة منطوقة، وهي لا تتغير مع مرور الزمن، ولا تتأثر بالعوامل الاجتماعية المختلفة، مع أن اللغة ظاهرة اجتماعية في أصلها.
أقول: أما موقف العرب من لغتهم فهُم أهل اللغة وهم أدرى بها، سمعوها واستعملوها وقعّدوها، وأما الزعم بأنها لا يمكن أن يكتسبها الطفل فزعم باطل ضد حقائق العلم وما قرره العلماء من استطاعة الطفل تعلم أي لغة، ومن تجاربي أن ابني بدرًا حفظه الله تعلم الفصيحة في المنزل تلقائيًّا من محادثته بها ومن مشاهدته لبرامج بالفصحى، ولم يتخل عنها حتى دخل المدرسة الابتدائية وتعرض فيها للعامية. وأما الزعم بأنها لا تتغير فزعم باطل لا تقره الدراسات الكثيرة التي أثبتت تغيرات في أصوات العربية وألفاظها، فالطاء عند المحدثين مخالفة للطاء التي وصفها سيبويه والقاف كذلك، وأما تغير الألفاظ وهجر كثير منها ووضع أخرى وتغير معاني بعضها فأمر واضح للعيان ويطول القول فيه.
يقول فهد عاشور «في ظل غياب الأدلة الكافية لتصنيف الفصحى كلغة طبيعية، تصبح احتمالية أن تكون هذه اللغة لغة مصطنعة كبيرة للغاية»(ص 24). وفي كلامه شيء من التناقض، فكون الأدلة غير كافية لا ينفيها نفيًّا باتًّا يجعله يزعم ما قدم زعمه. وكون القول بأنها مصطنعة مجرد احتمال يفسد عليه أمره فما يدخله الاحتمال يبطل به الاستدلال.
وأما أنه «لم تدرس الفصحى كلغة مصطنعة مطلقا»(ص 24) فلأنها ليست كذلك. ثم يذكر زعم بيير لارشيه Pierre Larcher في ورقة بحثية أن الفصحى لغة مصطنعة. ثم يقدم ما يمكن أن يكون ردًّا لهذا الزعم وهو لم يردِ الردّ بل أراد بيان مزية عمله هو، قال فهد عاشور «لكنه لا يقدم في دراسته المختصرة تحليلا لأنظمة هذه اللغة لإثبات صحة هذا الاعتقاد، ولا يوضح كيف صنعت هذه اللغة، وما هي الوسائل والأدوات التي استخدمت في صناعتها»(ص 24)، والغريب أنه رغم كل هذه العيوب يشيد بها لأنها تنسجم مع مذهبه قال «مع ذلك، إن النتيجة التي تقررها دراسته مهمة للغاية، لأنها تبرهن على عدم وجود لغة معيارية في جزيرة العرب حتى زمن نزول القرآن، ولأنها تستثني اللغة الفصحى، من حيث التصنيف من قائمة اللغات الطبيعية»(ص 24). ولنا أن نسأل من أين جاء البرهان على الرغم من غياب ما أخذه عليها. ولكن الأهمية عند فهد عاشور أنها تستثني اللغة الفصحى من اللغات الطبيعية. أي عبقرية فذة للعرب جعلتهم يصطنعون لغة، ولم فعلوا وهم من غير حاجة إليها؛ فلديهم لغاتهم التي تفي بأغراضهم. وما المقصود بالمعيارية أهو ما يقابل الوصفية؟ وهل توصف اللغة نفسها أي لغة بأنها معيارية؟ أحسب المعيارية والوصفية تطلق على معالجة اللغة ودرسها.
ولتحقيق مراده يوازن في الفصل الرابع بين اللغة الفصحى واللغات المصطنعة ليصل في زعمه إلى نتائج فيها «تطابق تام بين اللغة الفصحى واللغات المصطنعة في (1) الواقع والأهداف (2) الفئات الاجتماعية المستهدفة (3) الوظيفة كلغة كتابة، أو كلغة أدبية (4) الارتباط المباشر بالرياضيات (5) وفي التصنيف»(ص24) والمهم عنده أنّ النتيجة التي ينتهي إليها أن الفصحى لغة مصطنعة مختلطة، صنعت في القرن الـ 2هـ/8م في العراق من مكونات مشتقة من لغة القرآن، ولهجات القبائل البدوية، ولهجات سكان الأمصار؛ وأخرى أوليّة من مبادئ وقوانين الرياضيات. ولكن كيف تكون لغة مصطنعة وهي من لغة القرآن ولغات القبائل، ونحن نعلم أن اللغة الفصحى هي لغة مشتركة للعرب تكلم بها جمهرتهم واستعملوها في أشعارهم وخطبهم وأمثالهم ونزل بها الوحي، وأحسب أن غيرها من اللغات له هذه الصفة فهناك لغة قومية ولغيات في بيئات متفرقة بل البيئة الواحدة قد تشتمل على تفرعات يسيرة كما هو الحال في الجزيرة العربية.
يقول فهد عاشور «لقد استخدم الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170هـ / 786م) - مخترع هذه اللغة - قوانين ومبادئ الرياضيات بإبداع يبعث على الإعجاب في بناء أنظمة اللغة، وفي تحديد آلية عملها»(ص 25). لسنا نشك في عبقرية إمام النحويين واللغويين ولكن اختراع لغة فوق طاقة رجل مهما كانت عبقريته، وهبنا صدقنا أنه اخترعها فكيف حمل الناس عليها؟ وكيف جعلهم يغيرون القرآن وفاقها والشعر الجاهلي والخطب والأمثال وكل ما روي من أقوال العرب وحكاياتهم؟ وإن كان هو المخترع فلم نسب تلميذه سيبويه أقوالًا نحوية عن غيره كأبي الخطاب الأخفش وعيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء ونحويين لم يسمهم. وما شأن ما روي عن عبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي(117هـ)؟ كيف بسط قياس لغة لَمّا تُخترع؟ وكيف حاسب بها الشاعر الفرزدق حتى خلده بشعره؟
ويختم مقدماته بقوله «هذه الأنظمة مصممة بالكامل لكي تعمل بصورة آلية لإنتاج الكلام، تماما كما تعمل برمجيات الحاسوب في عصرنا الراهن لإنتاج وتوليد اللغة آليا»(ص 25).
نعم أنظمة العربية دقيقة كما أن أنظمة اللغات كذلك على تفاوت في ذلك؛ ولكنها ليست كالحاسوب كما يزعم، إذ لو كانت كذلك ما وقع الشذوذ في استعمالها ولا الضرورات الشعرية ولا اللحن فيها.
ثم يعمد لأمر طريف استفاده من أستاذنا تمام حسّان وهو صنع بيت شعري من ألفاظ لا معاني لها مستعملة في العربية ليبين أن البنية الصرفية التركيبية بنية لفظية، وتمّام كان يهدف إلى بيان نظريته في التحليل النحوي المعتمدة على القرائن اللفظية والمعنوية في التصنيف، ولم يدر بخلده، رحمه الله، أنَّ العربية الفصحى لغة مصطنعة، وهو أراد أن يثبت أن القواعد تجريدية، وأنه يمكن أن يُعرب الكلام وإن غاب معناه، وذلك لأن الإعراب عنده قرينة من القرائن، وتقليد فهد عاشور له غير موفق يقول «للبرهنة على صلاحية استخدام أنظمة اللغة الفصحى في صناعة الكلام من العدم، سيختتم هذا الفصل بنموذج لغوي تطبيقي هو عبارة عن مقطوعة شعرية مكونة من أربعة أبيات، قمت بتأليفها من جذور لغوية غير مستخدمة في اللغة»(ص 25). اعتمد على الجمهرة في إحصاء الجذور المهملة وهذا لا يكفي؛ إذ بعضها مستعمل مثل (ب/خ/م) و(ت/ث/م)، و(ج/ر/ق)، و(د/ر/ل)، و(د/ش/ل)، أوردها الزبيدي وغيره. ونجد المؤلف لم يستطع نظم أبياته من غير حروف معانٍ عربية: (على، من، الباء، واو العطف، هل، قد، إن، لام التعريف، لا، إذا، ما)، ومن الطبيعي أن يكون الكلام غير مفهوم إن استعمل من جذور مهملة. ولكن هذا لا يدل على أنَّ العربية لغة مصطنعة. وغموض المعنى يمكن أن يحدث من ألفاظ مستعملة الجذور، وحسبك أن تقرأ كتاب (الملاحن) لابن دريد.
استعمال القوالب الصرفية التركيبة كاستعمال القوالب المادية؛ فهي إن سكبْتَ فيها الذهب ظفرت بسبيكة ذهب، وإن سكبْتَ فيها طينًا صار لبنة، واللغة ليست قوالب فقط بل هي تضافر بين اللفظ والمعنى؛ ولذلك سمى تمام حسان كتابه (اللغة العربية معناها ومبناها). وسيكون لي وقفة عن مفهوم الفصاحة عند فهد عاشور.
وفي نهاية قولي أود أن أصحح للمؤلف اسم أسرتي فهو (الشمسان) لا الشماس كما أثبته في قائمة مراجعه.