منذ إعلان رؤية 2030 في عام 2016، تضاعفت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر أكثر من 4 مرات، وتضاعفت معها أعداد الرخص الاستثمارية المصدرة لأكثر من 10 أضعاف بين عامي 2016-2024، إذ عملت السعودية على آلية للاحتساب وفقًا لمنهجية دليل ميزان المدفوعات ودليل وضع الاستثمار الدولي الصادر من صندوق النقد الدولي التي تتماشى مع أفضل المعايير الدولية.
وحين تتدفق رؤوس الأموال قبل أن تتشكل الأبنية، ويُقاس المستقبل الاقتصادي بقيمة الأرض، وقبل أن تُشيَّد عليها المشاريع، يُصبح التقييم العقاري لغة الاستثمار الأولى، والبوصلة الموجهة للقرار الاقتصادي الرشيد، في مشهدٌ تتقاطع فيه الطفرة التاريخية في الاستثمار الأجنبي المباشر مع الدور المحوري الذي يلعبه القطاع العقاري، ليس بوصفه وعاءً للأموال فحسب، بل كأحد أعمدة التنمية الاقتصادية المستدامة.. لنرى تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى المملكة في عام 2024، قد سجلت نحو 119.2 مليار ريال، بنمو سنوي بلغ 24.2 %، وهو أعلى مستوى منذ أخر ثلاثة أعوام، متجاوزًا المستهدف السنوي بنسبة تقارب 39 %.
هذا الرقم يعكس تحوّلًا نوعيًا في نظرة المستثمرين إلى السوق السعودية، التي باتت تُدار وفق معايير شفافية وحوكمة تتطلب أدوات دقيقة لقياس المخاطر والعوائد، وعلى رأسها التقييم العقاري المهني، وليس مجرد زيادة كمية في رؤوس الأموال، التي استحوذت الاستثمارات العربية فيها على ثلث هذه التدفقات، بقيمة 39.2 مليار ريال، تصدرتها دولة الإمارات باستثمارات بلغت 18.4 مليار ريال، ثم مصر باستثمارات قدرها 6.5 مليار ريال، إضافة لمساهمات لافتة من الأردن والبحرين واليمن.
هذا الحضور العربي الكثيف يبرز الأهمية المتزايدة للتقييم العقاري العادل والمنهجي، كونه الضامن الأول لسلامة القرارات الاستثمارية، خاصة في المشاريع المشتركة العابرة للحدود، حيثُ تُظهر خريطة التوزيع الجغرافي للاستثمار الأجنبي المباشر أن مدينة الرياض تصدرت المناطق الأكثر جذبًا بنسبة 61% من الإجمالي، وبقيمة تجاوزت 73 مليار ريال، تلتها الشرقية ثم مكة المكرمة. وهي مناطق قلب النشاط العقاري في المملكة، التي تتقاطع خلالها مشاريع الإسكان، والمقار الإقليمية للشركات العالمية، والمجمعات الصناعية والتجارية.
وهنا لا يمكن فصل نجاح هذه المشاريع عن دقة التقييم العقاري الذي يحدد القيمة الحقيقية للأصول، ويمنح المستثمرين الثقة في بيئة استثمارية تتسم بالاستقرار والوضوح.
وعلى مستوى القطاعات، دخل التنوع الاقتصادي منحاه التنموي والتطويري فشكّلت الاستثمارات غير النفطية نحو 90% من إجمالي تدفقات 2024، وتصدرت الصناعة التحويلية، وتجارة الجملة والتجزئة، والتشييد، والأنشطة المالية والتأمين قائمة الأنشطة الجاذبة، وكلها قطاعات تعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على الأصول العقارية، وهنا يبرز التقييم العقاري كأداة اقتصادية لا غنى عنها، تُسهم في تسعير الأصول بعدالة، وتسهيل التمويل، وتعزيز كفاءة تخصيص رأس المال..
ومع انتقال 660 شركة عالمية لإنشاء مقراتها الإقليمية في المملكة، وصدور أكثر من 50 ألف رخصة استثمارية لشركات أجنبية، ازدادت الحاجة إلى منظومة تقييم عقاري متقدمة، تتوافق مع أفضل الممارسات الدولية، وتنسجم مع منهجيات صندوق النقد الدولي في احتساب الاستثمار، ومع متطلبات الأسواق العالمية. فالتقييم العقاري لم يعد نشاطًا فنيًا معزولًا، بل أصبح جزءًا من البنية المؤسسية للاقتصاد الوطني.
ومنذ إطلاق رؤية السعودية 2030، تحوّل القطاع العقاري من سوق تقليدي إلى قطاع استراتيجي منظم، مدعوم بإصلاحات تشريعية، وأنظمة مهنية، ومنصات رقمية، أسهمت في رفع مستوى الشفافية والحوكمة.
وأسهم ذلك بدوره في تعزيز ثقة المستثمرين، وخفض المخاطر، ودعم النمو المتسارع للقطاع غير النفطي، لتكون التوقعات إيجابية لنمو الاقتصاد السعودي خلال الأعوام المقبلة، مع استمرار ارتفاع الاستثمار الأجنبي المباشر في 2025 بنسبة تجاوزت 14 % في بعض الفترات، فما تشهده المملكة اليوم ليس مجرد تدفق أموال، بل بناء منظومة اقتصادية متكاملة، يكون فيها التقييم العقاري حجر الزاوية لضمان استدامة النمو، وعدالة السوق، وجاذبية الاستثمار، في اقتصاد يتجه بثقة نحو المستقبل.
** **
- عبدالعزيز العبيد