لا يمكن فصل ما يشهده السوق العقاري اليوم في المملكة لا سيما الرياض، عن ملف ظل لسنوات يعمل في الخلفية دون أن يُمنح حقه من النقاش، وهو قطاع التقييم العقاري، باعتباره أحد أهم أدوات ضبط السوق، وحماية الناتج المحلي من آثار التضخم الوهمي الذي رأيناه مؤخراً وكبح جماحه القرارات الحكيمة الأخيرة، فالعقار، وفق البيانات الرسمية، يُعد من أكبر المكونات غير النفطية في الناتج المحلي السعودي، بما يُسهم بحوالي 7 % من الناتج المحلي الإجمالي، وارتباطه المباشر وغير المباشر بالتمويل، والإنشاءات، والقطاع المصرفي، والاستهلاك الأسري. وهو ما يمتد إلى الاقتصاد الكلي، فعندما تختل آلية التسعير العقاري، فإن الأثر لا يتوقف عند سعر الأرض، وهنا نقول إنه «حين تغيب القيمة… نرى المضاربة»، كما في السنوات السابقة، حيثُ شهدت أحياء محددة في الرياض تضخمًا سعريًا لا يستند إلى تقييمات عادلة أو معايير مهنية، بل إلى مضاربات رفعت الأسعار بنسب تجاوزت المنطق الاقتصادي.، وهو ما أدى إلى تشوه مؤشرات السوق العقاري، وبالتالي تشويه جزء من بيانات الناتج المحلي، وبالتالي تضخيم صوري لقيم الأصول، وارتفاع مصطنع في محافظ التمويل ضغط متزايد على القدرة الشرائية للأسر.
إن السوق العقاري المتوازن لا يقوم على خفض الأسعار أو رفعها، بل على تثبيت العلاقة بين السعر والقيمة.
فأي توسع عقاري سيتحول إلى فقاعة آجلاً أم عاجلاً حال عدم وجود التقييم العادل، وما يحدث اليوم في الرياض يؤكد أن التقييم العقاري لم يعد نشاطًا فنيًا هامشيًا، بل أصبح أداة اقتصادية إستراتيجية لحماية الناتج المحلي، كما أنه وضمان عدالة للسوق واستدامة للنمو العقاري.
إذاً التصحيح السعري هو عودة لمنهج التقييم، التي أثبتت أن التراجعات التي شهدتها أحياء المضاربات مؤخرًا، وتراوحت بين 17: 31 %، ليست إلا نتيجة طبيعية لعودة السوق إلى منطق التقييم العقاري القائم على الأسس. فعندما يتراجع حي مثل حي لبن بنسبة 31 %، أو حي الخير بنسبة 25 %، فهذا لا يعني تراجع القيمة الاقتصادية، بل انحسار الفارق بين السعر والقيمة الحقيقية، وفي المقابل، الأحياء التي كانت متوازنة بطبيعتها، ولم تتجاوز قيمها حدود القدرة الشرائية، شهدت إما استقرارًا شبه كامل أو تراجعات طفيفة بين 3 و8 % فقط. ليكون السلوك السعري دليلاً على أن السوق لم ينهَر، بل بدأ يستجيب للتقييم الحقيقي بدل التسعير الانفعالي.
وهنا تدخلت العناية الإلهية بتوجيهات سمو ولي العهد بخمسة إجراءات لتحقيق التوازن العقاري تمثل في جوهرها انتصارًا لمنهج التقييم المهني داخل السوق، وليس مجرد زيادة معروض، فحين تدعم الدولة منهج التقييم يبرز التوازن العقاري، فلم يكن هدف خفض الأسعار فقط من رفع الإيقاف عن أكثر من 81 مليون متر مربع، وتوفير ما بين 10 آلاف و40 ألف قطعة سنويًا بأسعار لا تتجاوز 1500 ريال للمتر، بل خلق مرجعية سعرية عادلة تُقاس عليها بقية الأصول العقارية، فعندما تُطرح أرض داخل النطاق العمراني بسعر معروف، وتكلفة وحدة نهائية تراوح بين 900 ألف و1.2 مليون ريال شاملة البناء، فإن ذلك يعيد تشكيل توقعات السوق بأكمله، ويجبره على العودة إلى معادلة:(الموقع + الخدمات + تكلفة التطوير = القيمة العادلة)، وهنا نخرج بأن منصة التوازن العقاري… مرجعية بيانات لا وسيط بيع، فهي لا تكمن في عدد القطع الموزعة فقط، بل في كونها مولّد بيانات عقارية موثوقة، جعلت من هذه البيانات مادة أساسية للمقيّمين العقاريين لتحسين دقة التقييم وتقليص الفجوة بين القيمة الدفترية والقيمة السوقية ودعم قرارات التمويل والاستثمار، وهنا يظهر الفرق الجوهري بين سوق يُدار بالمزاج، وسوق يُدار بالبيانات.
أما الارتفاع الذي تجاوز 24 % في مبيعات البيع على الخارطة بعد تثبيت الإيجارات، يعكس تحسن الثقة في السوق، لكنه يعكس أيضًا تقدم دور التقييم المسبق للمشاريع، فبيع ما يقارب 300 ألف وحدة سكنية ستُسلم بين 2026 و2029 يعني أن السوق انتقل من تسعير الأرض فقط، إلى تسعير المنتج النهائي بناءً على تكلفة وقيمة.
وهذا التحول يقلل المخاطر النظامية على البنوك وشركات التطوير الاقتصاد الكلي.
إن التوازن العقاري في الرياض ليس نتيجة زيادة معروض فقط، بل نتيجة عودة التقييم العقاري إلى مركز القرار.
فتُبنى الأسعار على بيانات، وتُقاس القيم بمعايير، ويصبح السوق أكثر استقرارًا، ويصبح العقار عنصر دعم للاقتصاد… لا عبئًا عليه.
** **
- عمار الزغيبي