Culture Magazine Monday  03/12/2007 G Issue 225
الملف
الأثنين 23 ,ذو القعدة 1428   العدد  225
 

هو .. للعاشقين دليل
أحمد إبراهيم أحمد

 

 

رأيته للمرة الأولى أثناء انعقاد مؤتمر علمي في كلية المعلمين بحائل.. رجل ضئيل الحجم.. كبير الهيبة في عيون من حوله كبروا أو صغروا، وحين سألت: من هو؟ قيل لي.. هذا هو عاشق الهذال.

وبقيت لعاشق الهذال صورة غائمة في الذهن حتى تلاقت خطانا مرة أخرى حين جمعتنا جمعية الثقافة والفنون وهو رئيس لفرعها في حائل لتتوطد علاقة إنسانية رفيعة مع عقل جميل، ونفس هادئة نبيلة، يكللها حضور إبداعي بسيط يميز كتبه التي تعرفت عليها يزينها سرده المحلي الواقعي، وهو يشعل قناديل حكاياته البسيطة من حياة الناس العاديين ومشكلاتهم الإنسانية.. سرد يستولده من رحم الحياة الحقيقية، ويحمله من روحه الإنساني النبيل نظرة نقدية ساخرة ناقدة للضمير بعفوية ماهرة، ودافعة الإنسان البسيط للبحث عن حقائق الحياة حتى وإن كانت نائية.

لم يتنكر يوماً لحياته الأولى، ولم يتعال على تفاصيلها البسيطة، ولم يدع مثل كثيرين عن هذه الحياة ما لم تكن، وبقي في بساطته الآسرة يذكر تلك الأيام الخوالي من العمر الأول بصدق وعفوية فيقول عنها: (عشت طفولتي وصباي.. في حياة متقشفة.. ومع ذلك أنيسة ومؤنسة، أو على الأصح حبيبة غالية رغم أنكادها المعاشية، وبقي حبها معي رغم بعدي عنها لمدة أعوام خمسة وعشرين في المنطقتين الغربية والوسطى).

لم يكن الهذال العاشق لسحر الكلمات وحكايات الناس يوماً منفصلاً أو متواصلاً مع المشهد الثقافي والأدبي، بل علماً من أعلامه.. رغم ابتعاده الدائم عن دائرة الإعلام والضوء.. لا يكف بأدبه عن طرح رؤيته المتميزة لحياة البسطاء من خلال بناء سردي بسيط متفلسف، ورغم مضي الأيام وتقدمه في السن، ومعاناته متاعب صحية مزعجة.. بقي عاشقاً للحرف، مداوماً على العطاء كصوت إنساني صادق يعبر عن مجتمعه بعمق.. فارضاً عليك كقارئ لإبداعه أن تتفاعل مع القيم التي يعلي من شأنها في عطائه الذي يجمع بين أحداث وعناصر إنسانية معبرة في تجربة سردية بسيطة، تلج القلوب دونما استئذان، كشاهد أمين على وفاء الإنسان البسيط لقيم الحياة.

هذا الرجل الهادئ البسيط يحمل في داخله بركاناً من الحياة، وقادر ببساطته الآسرة على أن يتخذ المواقف الكبيرة في هدوء حقيقي دونما افتعال، ويتحمل برجولة حقيقية نتائج قراراته، ويستطيع أن يواجه الواقع بصرامة رجل، وقد خبرته حين أتيح لي خلال فترة تعاون قصير معه خلال رئاسته الثرية لفرع جمعية الثقافة والفنون بحائل أن نقدم للمنطقة بعضاً من أهم الوجوه الثقافية والفنية التي زارت حائل مثل الأستاذ الدكتور سعد البازعي، والدكتور راشد الشمراني، والفنان ناصر القصبي في وقت كانت هذه الشخصيات وفعالياتها من أكثر الأشياء بعداً عن حائل وأساليب التفكير السائدة، وواجه الرجل الشجاع كل الاحتمالات وحده بصبر ووعي وثقة في الذات وفيما يفعل، وبإيمان عميق بأهمية الثقافة والحقيقية ودورها في بناء المجتمع، وعاش طوال الوقت يذكر غيره من المبدعين سواء اختلف معهم أو اتفق باحترام حقيقي، وظل يرى في المبدع قوة دافعة لتنمية الوطن تفوق في قدرتها القوى الدافعة المادية كافة.

هذا الرجل العاشق للحياة وقيمتها النبيلة لم ينسق وراء ظواهر المجتمع ومغرياته الحياتية، وترفع عن الصغائر مزيناً حياته بالفضائل والقيم الرفيعة.. قيم الخير والحب والجمال.. ورغم كل شيء عاش حياته بطولها وعرضها هانئاً بلا ضعف أمام المغريات الصغيرة التي ينزلق في بئرها الناس.. عاش حياته شعراً حقيقياً من البساطة والحزم، وأخذ نفسه بضوابط قل في هذا الزمان من يأخذ نفسه بها، وحين ترك العمل التقليدي بعدما تقاعد.. انقطع للقراءة والكتابة التي تعبر عن ولعه ببيئة حائل ليحيل ليلها القارص إلى دفء محمل بالروح الإنساني الجميل بعدما تراجع الجمال ليصبح القبح هو السيد، وليستضيف قوافل الإبداع لتسكن في عالمه الذي صنعه بدأب عبر سنين طوال، بعدما سكنت الفجاجة أرواح الكثير من الناس.

هذا الرجل الإنسان يملك نفساً كريمة نبيلة تتمسك بالمثل العليا الآتية من عمق الثقافة العربية والتاريخ الإسلامي، ويعيش بعقل عصري واع في مستقبل لا يقيده أوهام أصالة زائفة، ويمارس علاقاته مع الناس -وإن قلت- بطبع عطوف قليل التجهم، وإذا ضحك.. ضحك من عمق قلبه.. لم تستطع لا السنين ولا المرض أن يقيدوه، أو يمنعوه من النظر للمستقبل بتفاؤل، فبقى ناظراً إلى الأمام دوماً.. ولم ينقطع عن القراءة أبداً.. وسكن حائل التي تسكنه.. متأملاً يلملم شتات الإبداع الإنساني من فكر وثقافة وأدب وفن بمتعة المبدع مرتين.. مرة حين يقرأ، وأخرى حين يكتب.

صديقي الكبير.. مد الله في عمرك، ومنحك الصحة العافية، ودمت لمحبيك.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة