Culture Magazine Monday  03/12/2007 G Issue 225
أوراق
الأثنين 23 ,ذو القعدة 1428   العدد  225
 
فيدور دوستويفسكي وتأملات في (النفس المرتفعة الإدراك والمثقلة بالهواجس) (2-2)
رحمة الزبيدي

 

 

إن أمنا الحياة لا تمرر ذلك الخرق لقوانينها الفطرية دون عقوبة، بل تجعل العقاب ينبع من داخل الفطرة الإنسانية نفسها، بسياط الضمير اللاهبة.. ولذلك نجد أن فيدور في روايته (الجريمة والعقاب) أطال في وصف العقوبة على حساب القصر النسبي في وصف الجريمة ذاتها.

غير أنه أيضاً يستدرك، فيعلمنا أن الروح العظيمة إنما تخرج من تحت تجربة عميقة الصهر، تنقيها من شوائب النفس وتهيئها للخلود الحقيقي.

وأن تلك الجريمة الهائلة الطريقة لبطل روايته، إنما كانت لتعاود خلقه من جديد..

(الحق الحق أقول لكم: إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير) - إنجيل يوحنا -

إن هذه الجملة من الإنجيل التي قدم بها فيدور روايته (الأخوة كارمازوف) لتنبئنا تأكيداً عن نظرة ديوستويفسكي بأن خروج الروح العظيمة إنما يكون بعد ترديها في الأرض بتجربة عميقة مذلة.

كما تذكرنا بمقولة النقاد الذين قالوا: (إن فيدور وضع هذه الجملة من الإنجيل مقدمة لروايته، لأنه كان يؤمن أن خروج الشعب الروسي إنما يحدث بعد تجربة عميقة).

وبعيداً عن بطل الجريمة والعقاب، المثقف شديد الإسراف في الشذوذ -كما يظهر من اضطراب فكره الذي أوصله للقتل - نجد أن المثقفين من أبطال (فيدور) لم يخرجوا كثيراً عن تلك الروح المتناقضة ل(رسكولينكوف) السوداوية الحساسة، والمعناة بالتفاصيل، والواقعة تحت أثقال العذاب النفسي العنيف بسبب من حياتها القاسية أولاً وبسبب من فكرها العميق ثانياً.

إن تلك الحساسية المفرطة والإدراك العالي الممتزج بالسوداوية، مع العناية بالتفاصيل، والشعور بالإذلال والشك أمام كل حدث يقع، لهو قطعة من العذاب النفسي يعتني بوصفها فيدور عناية بالغة.

(أقسم أيها السادة أن شدة الإدارك مرض، مرض حقيقي خطير. إن حياة الإنسان المألوفة لا تتطلب منه أكثر من إدراك الإنسان العادي، أي نصف أو ربع الإدارك الذي يتمتع به الإنسان المثقف في هذا القرن التاسع عشر الكئيب).

***

وفي مقطع آخر: (وكنت أقول لنفسي دائماً: المشكلة معي هي أنني أبالغ في فهمي للأشياء).

إن مثقفي فيدور يقفون وجها لوجه في كل مرة، أمام فكرة أو سؤال فلسفي يقظ من مضجع أرواحهم فيتساءلون بحرارة ولهفة: (وهنا أجد نفسي بالفعل في مواجهة هذا السؤال: أيهما أفضل: السعادة الرخيصة، أم العذاب السامي؟ حسناً، أيهما أفضل؟).

إن المثقفين عند فيدور يتصورون بصورتين تقريباً: مثقفو الوجاهة، أصحاب المناصب الرفيعة والذين تحصلوا على ثقافتهم بحكم قدرتهم المادية المرتفعة والتي كُرست للحصول على تعليم راق..

وصورة المثقفين أصحاب الاستعداد الفطري للفن، ونجد أن من خصائصهم الروحية أن أرواحهم ترزح دائماً تحت وطأة العذاب الفني والفكري، كما أنها تائهة غير محددة الوجهة، وتطغى عندها المشاعر على صفة التعقل والتروي.

في مقابل المثقفين الوجهاء الذي تميزوا بالروح العملية المادية، لطبيعة الطبقة الاجتماعية التي عاشوا بها. حيث نجد أن أرواحهم منسجمة مع الحياة انسجاماً بارداً ليس فيه حرارة الفن، ولا فيه تلك الحرارة الصادقة النابعة من السذاجة البريئة لطبقة الفلاحين, كما نجد أنهم غير قادرين على الخلق الحقيقي والابتكار.

وإن هذا الوصف الذي نجده في طيات روايات (فيدور) ليوصلنا إلى سر دوستويفسكي نفسه، من كونه فناناً بالفطرة صاحب روح قلقلة بالفن، مريضة بالفلسفة.

وتتأكد له -هو نفسه - هذا الحقيقة, عندما كتب روايته الأولى (الفقراء) فأطلع عليها الناقد الروسي الشهير بيلنسكي، فهتف به متحمساً عندما رآه: (أأنت تفهم أيها الشاب ماذا كتبت؟).

وتابع القول بأن ما لدى دوستويفسكي هبة من الله، فمن المستحيل أن يطلع شاب صغير في مثل سنه على تلك البواطن العميقة من النفس، إن لم يكن قد خلق الله في تكوينه منذ البداية عضواً خاصاً بالفن!.

وأدرك فيدور حينها معنى كل تلك الخيالات العنيفة والمعذبة، التي أثقلت روحه بنير العبودية للفن.

إن هؤلاء العباقرة هم من عناهم الرافعي وهو يفسر آية (زين للناس حب الشهوات من النساء....).. فيخبر عنهم بقوله: (إن من إعجاز الآية أنها اشتملت على تزيين الشهوات الإنسانية جميعها (الغريزة والعاطفة والروح والنفس)، أما ما كان خاصاً بشهوات العقل فلم يدخل في الآية وهذا من أعجب إعجازها، لأن أمور العلوم والفنون (لا تزين) إلا لفريق محدود من الناس، أي لا يزين حب الشهوات منها، وهذا الفريق عادة هم النوابغ العبقريون، وهؤلاء العبقريون في الحقيقة لا يجدون من العلوم والفنون (متاع الحياة الدنيا) ولكن مصائب الحياة الدنيا).. انتهى كلامه رحمه الله. غير أن مثقفي فيدور ينضجون في النهاية، ويصلون لنوع من الاتزان مع الحياة ومصائبها، وهذا الاتزان لم ينتج بحكم التعود الإنساني، ولكن عن قناعة عميقة بالله.

ورغم أن فيدور يؤمن بقدرة الإنسان على التكيف والاعتياد: (كائن يعتاد كل شيء، هذا في رأيي أفضل تعريف يمكن أن يعطى عن الإنسان).

إلا أن النضج المتزن غير المتذمر والغاضب - برأيي - والذي وصل له أبطاله المثقفون فيما بعد كما يظهر لنا في رواية (الأخوة كرامازوف) جاء من بعد معاناة عميقة وحقيقة لفيدور نفسه وهو يبحث عن الله وروح الدين... فنجده يصرخ بنقاده اللبراليون الذين تناولوا كتابه (الأخوة كارامازوف) بالنقد، وقالوا عن إيمانه بالله أنه (رجعة): (لا، إنني لم أؤمن بالله ولم أعترف به كما يفعل طفل، وإنما أنا وصلت إلى هذا الإيمان صاعداً من الشك والإلحاد بمشقة كبيرة وعذاب أليم).

***

لقد أبَّن فيدور صديقه القديم الشاعر بخطاب أليم، يبكي فيه: (القلب الجريح إلى الأبد، القلب الذي ظل جرحه ينبوع شعره كله، ومصدر حبه لكل من يتألم من الاضطهاد والعذاب).. وهكذا نحن نؤبِّن بنفس قوله روحه العظيمة الحساسة وندرج من بعد وصفاً حياً وافياً للناقد الروسي (ميريجكوفسكي):

(أما دوستويفسكي فأوثق بنا صلة وأقرب منا. لقد عاش فيما بيننا، في مدينتنا الكئيبة الباردة، ولم يخف تعقيدات الوجود الحديث، وقضاياه العضالة، ولم يتهرب من عذاباتنا، ولا من عدوى العصر. إنه يحبنا بكل بساطة، كصديق، كند لنا، ليس من أعماق بعد شعري كتورجنيف، ولا بسمو المبشر مثل تولستوي. إنه ملك لنا بكل أفكاره وبكل عذاباته).

لقد شرب معنا كأساً مشتركة، وهو مثلنا جميعاً قد أصيب بالعدوى رغما عن سموه. إن تولستوي يضمر ازدراء عظيما للمجتمع الفكري، (هذه النفاية)، إنه يغذي حقدا شديدا على ضعف الخطاة من أشباهه، إنه ينفر ويخيف باحتقاره، وبالقسوة التي يلجأ إليها كي يدين ما هو باق على قلوب البشر مقدسا في أنظارهم رغما عن كل شيء، دون أي اعتبار لسائر التهجمات عليه، وأن دوستويفسكي ليؤثر فينا أحيانا أكثر مما يفعل الأشخاص من أقاربنا وأصدقائنا الذين نحيا فيما بينهم والذين نحبهم. إنه يجعل من نفسه رفيقا لنا في أمراضنا، شريكا لأفعالنا السيئة والحسنة، وليس ما يجمع البشر مثل العيوب المشتركة. إنه يعرف أفكارنا الأكثر خفاء ويعرف مطامح قلوبنا الأكثر إحراجا. وليس من النادر أن ينتاب القارئ الذعر تجاه معرفته الشاملة، تجاه هذا النفوذ العميق بصورة لا متناهية إلى وجدان الآخرين. وأنك لتلقى عنده بعضا من تلك الأفكار الدفينة التي لا تجسر على الإسرار بها حتى لنفسك، وأقل من ذلك لصديق قريب. وعندما يمنحك هذا الرجل الذي اعترفت له بكل أعماقك غفرانه رغما عن ذلك، عندما يقول لك: (آمن بالخير، آمن بالله، آمن بنفسك)، فمن المؤكد أن في ذلك شيئا يسمو على تحليق الفنان أمام الجمال، شيئا يتجاوز عظات ذلك النبي المتجبر، المنعزل عن الجميع.

إن دوستويفسكي يفتقر إلى الانسجام، ينقصه ذلك التناظر القديم في ترتيب الأجزاء - ميراث الجمال البوشكيني- ينقصه كل ما أفعم به مؤلف (الآباء والبنون) من تراث مدهش، كما تعوزه تلك القوة البدائية، تلك الصلة المباشرة مع الطبيعة، التي نجدها عند ليون تولستوي. هذا إنسان خرج حديثا من الحياة، قد تألم لتوه وبكى، ولم تجف الدموع بعد عن أجفانه، كما لا يزال صوته يرتجف ويداه ترتعشان بفعل انفعاله. يجب ألا نقرأ مؤلفات دوستويفسكي، بل يجب أن نعيشها، أن نتلمس عذاباتها كي نفهمها، وعندئذ فإنها لن تغادر ذاكرتنا إلى الأبد.

وسلام على كل تلك الأرواح الخلاقة المعذبة بالفن، سلام لك فيدور.

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة