Culture Magazine Monday  03/12/2007 G Issue 225
أوراق
الأثنين 23 ,ذو القعدة 1428   العدد  225
 
قيمة القافية في تشكيل الرؤية في نماذج من الشعر السعودي المعاصر (2-2)
د. دوش بنت فلاح الدوسري *

 

 

ويمكن أن نلحظ قيمة أخرى للقافية من خلال هذه القافية المقيدة (5)، فهذا السكون يتناسب مع حالة السكون المعنوي، أو العجز والضعف، وعدم القدرة على التغيير، مما يمكن أن نلحظه في النص.

إذاً، فإن تعانق الرغبة في الإفضاء والتعبير عن الألم مع الإحساس بالعجز والضعف والسكون، جسّده تعانق المدود مع الحاء الساكنة. ويمكن أن نلحظ التناغم بين الرؤية وجماليات الدلالة الصوتية في القافية أيضاً، في قصيدة (صفحة من أوراق بدوي) للشاعر محمد الثبيتي:

ماذا تريدين..؟ لن أهديك راياتي

ولن أمد على كفيك واحاتي

أغرك الحلم في عينيّ مشتعل؟

لن تعبريه.. فهذا بعض آياتي

إن كنتُ أبحرتُ في عينيك منتجعاً

وجه الربيع، فما ألقيتُ مرساتي

هذا بعيري على الأبواب منتصب

لم تعش عينيه أضواء المطارات

وتلك في هاجس الصحراء أغنيتي

تهدهد العشق في مرعى شويهاتي (6)

حر ف الروي هو التاء المكسورة، والتاء حرف مهموس، وهو من الحروف الضعيفة.

إن هذه الرقة في صوت التاء، إلى جانب صوت الكسرة أيضاً يتناسب مع خطابه للمرأة / الرمز (المدينة أو الحضارة)، فالخطاب في بدايته يوحي بتجربة عاطفية استدعت هذا الهمس وهذه الرقة.

ولنلحظ - من ناحية أخرى -كثرة المدود في القافية: واحاتي، آياتي، مرساتي، المطارات، شويهاتي، الصباحات... إن هذه المدود بما فيها من سعة وامتداد تتلاءم مع رؤية البدوي التي تعبر عنها القصيدة، حيث الانطلاق والتوثب والانعتاق من القيود:

أنا حصان قديم فوق غرته

توزع الشمس أنوار الصباحات

أنا حصان عصي لا يطوعه

بوح العناقيد أو عطر الهنيهات

أتيت أركض والصحراء تتبعني

وأحرف الرمل تجري بين خطواتي

أتيتُ أنتعل الآفاق.. أمنحها

جرحي.. وأبحث فيها عن بداياتي (7)

لقد احتوت المدود الحركة والتوثب والانطلاق، تلك السمات التي يتسم بها البدوي، ولهذا نلحظ اتساع المكان وامتداده في تعبيره: الصحراء، الآفاق.....

فامتزاجه بالصحراء وانتماؤه لها لم يصيره أسيراً لها، بل أطلقت روحه، وشحنته بمزيد من الانعتاق.

ولنلحظ أن نصف المفردات في القافية تنتهي بياء المتكلم: واحاتي، خطواتي، بداياتي، ذاتي، عباءاتي، شويهاتي، فالياء تعد وصلاً، وياء المتكلم هنا جزء من الرؤية، فالقصيدة معنية بإبراز الهوية، هوية البدوي وانتمائه القوي، وثباته على قيمه، وعدم تزعزعه وتأثره بالحداثة، كل هذه المعاني يعبّر عنها الشاعر باستخدام ضمير المتكلم المنفصل والمتصل. واستخدام ضمير المتكلم يعزّز هذه الرؤية، وذلك حين يؤكّد الإنسان ذاته لمن يتجاهلها، أو حين يشعر أن من حوله لا يعرف قدره، فإنه فعال في هذا الجانب (8). والشاعر بالطبع لا يريد ذاته فقط،وإنما يعبّر عن ذات الجموع الأخرى التي تشترك معه في هذه الهوية. ويمكن أن نلحظ قيمة أخرى لحرف الروي في قصيدة (دم العروبة في مزاد علني)، للشاعر عبد الله الرشيد:

عربي ! وأركض حائراً قلقاً

سيفي فمي، وغراره خطبي

أشتد من وهن إلى وهن

وأفر من صخب إلى صخب

وهواني المشؤوم، أصبح في

ثغر الدنى: ترجيع مكتئب

هذا دمي خذه بلا ثمن

وأرقه في كأس من الخشب

أعتق شموخي، واحبني أملاً

فلقد رشفتُ ثمالة الهرب (9)

حرف الروي الباء حرف شديد مجهور انفجاري، وهذا يتناسب مع الرؤية التي تنتظم النص، فالشاعر يسخر من العروبة بوضوح وصراحة، وبصوت عال، وهذا الموقف لا يتناسب معه الرقة والهمس، فصوت الباء بجهره وشدته لاءم هذه الرؤية.

إلا أنا نلحظ ثمة أسى أيضاً على العروبة، وما آلت إليه، وثمة انكسار أيضاً، وهذا تناسب معه الكسرة (حركة الباء)، فالكسرة فيها رقة،حيث إن استعمال الكسر (مناسب للرقة والعواطف اللينة والمنكسرة) (10). فصوت الباء المكسور جسّد جانبين رئيسين في النص: الغضب والغيظ من أوضاع العرب، والإحساس بالأسى والانكسار في الوقت نفسه.

وفي نموذج مختلف، نلحظ أثراً آخر للقافية، وذلك في قصيدة (سيد الشعر)، للشاعر حبيب المطيري:

أي شعر تريد يا سيد الشعر

دروب الهوى حداها العناءُ

إنني شاعر له لوعة الشع

ر وللأصفياء منه الغناءُ

يطرب الناس في البكور رفيفاً

عبقريا يفيض منه السناءُ

ثم يأوي إلى الهموم وحيداً

ويوافي بجيشهن المساءُ

كيف يلقي قصيدة من أناخت

في دماه الخطوب والأرزاءُ

ضاع منه القريض نهباً وتاهت

بالقوافي الحسان إبل ظماءُ

إنه مدنف أطاح به البو

حُ، وألوت بقلبه اللأواءُ (11)

حرف الروي الهمزة المضمومة، وردفها هو حرف الألف، والهمزة صوت مجهور انفجاري، وفي نطقه نحتاج لجهد عضلي كبير. هذه الهمزة إذن بصعوبة نطقها تواءمت مع هذه الرؤية التي تبيّن عن كون صاحبها واقعاً تحت ضغط العناء والمصاعب والمشقة والشدة، فنحن نرى مفردات كثيرة في القافية تبين عن هذه الرؤية: العناء، الأرزاء، ظماء، اللأواء...

فهو لا يعبّر عن مجرد ضعف أو عجز، وإنما عن شدائد ومصاعب تضغط عليه، وزاد من قوة الصوت الموازي لشدة المعاناة التي يرضخ تحتها الشاعر حركة الهمزة (الضمة). فالضمة فيها فخامة عند نطقها، ناسبت التعبير عن الوقع القوي للمآسي على نفس الشاعر. وإذا أضفنا إلى ذلك المدة (الألف)، زاد الإيحاء بالمعاناة، فهذه الأصوات الطويلة تقترن غالباً بالنفس المكروبة الواقعة تحت ضغط وعنف، هي تمد في أصواتها، لتنفس عما بها من ضيق.

***

(5) القافية المقيدة (هي ذات الروي الساكن) المعجم المفصل / د. إميل يعقوب، ص358 .

(6) تهجيت حلماً.. تهجيتُ وهماً - ص101-10

(7) السابق - ص102 .

(8) انظر: دراسة الأسلوب بين المعاصرة والتراث، د. أحمد درويش ص110 .

(9) خاتمة البروق - ص145 .

(10) مدخل إلى تحليل النص الأدبي. د، عبد القادر أبو شريفة، حسين قزق، ص82 .

(11) نوافذ الشمس- ص34-35 .

وانظر في صفات الحروف: التجويد والأصوات، د. إبراهيم نجا.

* جامعة الرياض للبنات - قسم اللغة العربية.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة