Culture Magazine Monday  03/12/2007 G Issue 225
فضاءات
الأثنين 23 ,ذو القعدة 1428   العدد  225
 

عندما يترجم سعدي يوسف شعراً من (الضفاف الأخرى)
إيقاع واضح ووزن صريح ولسان عربيّ مبين في قصائد (لوركا)
عبد المحسن يوسف

 

 

قلت قبلاً إن ناديا ظافر شعبان أطفأت بترجمتها قصائد (لوركا) وهج هذا الشاعر العظيم، وبمقارنة يسيرة بين ترجمة ناديا وترجمة صلاح عبد الصبور لقصائد هذا الشاعر الإسباني الكبير، نجد أن عبد الصبور كان بارعاً وأن ترجمته أبقت على الوهج الشعري عند (لوركا) حتى بعد انتقاله إلى لغةٍ أخرى، وبهذا نضع أصابعنا على حقيقة جلية هي: إذا نهض بترجمة الشعر الأجنبي شاعرٌ عربيٌّ ذو تجربة شعرية كبيرة ولغة متوهجة ورؤية عميقة، فإن ذلك الشعر الأجنبي يظل متشبثاً بالكثير مما فيه من مباهج، ولا يخسر كثيراً من حرارته ونبضه وألقه وجماله، لكن إذا تولى مهمة الترجمة مترجم (عادي) أكاديمي يتقن اللغة التي يترجم عنها فحسب، أو موظف في مؤسسة للترجمة مثلاً (أعني من ليس شاعراً ومن ليس لديه حسٌّ شعري) فإن النص المترجم عندئذٍ يخسر الكثير على يديه، بل إنه (أي النص المترجم) قد يشهد موته ويستحيل محض جثة.. وهذه الحقيقة يؤكدها الشاعر الكبير سعدي يوسف عبر ترجمته المتميزة لقصائد عدد من شعراء العالم الذين ترجم لهم مختارات فاتنة وأصدرها في دواوين متفردة عن إحدى دور النشر، وأعاد طباعتها وإصدارها بعد ذلك عن دار (المدى) في دمشق محتفياً بشعراء من (الضفاف الأخرى)، وقد حظي (لوركا) باحتفاءٍ واضح من سعدي الذي حرص على أن يقدمه للمتلقي العربي بلغة عربية فاتنة وفي ثوبٍ إيقاعيّ بهيّ محافظاً في الوقت نفسه على (جماليات) النص الشعري عند ذلك الشاعر العالمي الكبير، ولنأخذ مثلاً قصيدة (منظر) التي سبق أن أوردناها مترجمة بحبر ناديا شعبان وكذلك بحبر صلاح عبد الصبور، لنكتشف براعة سعدي وتميزه، خصوصاً أن قاموسه اللغوي يتصف بالثراء كما يتصف أسلوبه في بناء الجملة الشعرية التي يقوم بترجمتها بأنه أكثر قرباً من مناخ قصيدة التفعيلة في العربية..

لنقرأ معاً قصيدة (منظر) كما ترجمها سعدي يوسف الذي يحرص على إدخال القصيدة المترجمة - وخصوصاً قصيدة لوركا لاعتبارات كثيرة - ضمن مناخ الشعر العربي ليكون قريباً من الذائقة العربية، وأنه - لهذا السبب - يتشبث بالإيقاع الواضح والوزن الصريح:

يتفتّحُ حقلُ الزيتونِ

ويُغْلَقُ حقلُ الزيتونِ

كمروحةٍ..

في ضفةِ النهرِ

ترتجفُ العتمةُ والقصبُ

ويموجُ هواءٌ داكنْ

أشجارُ الزيتونِ تضجُّ بها الصرخاتْ

سربُ طيورٍ مأسورة

تُشْرِعُ أذيالاً متطاولةً

في الظلْ..

بعد أن فرغت من قراءة ما ترجمه سعدي - هنا - أحسستُ بأنه سعى أولاً لأن يكون متحرراً من سطوةِ لغة (لوركا) ومفرداته، كيلا يكون عبداً للنص الأصلي حين يقوم بترجمته.. وبعد هذا السعي التحرري، وبعد هذا الخلاص من العبودية التي يمليها النص الأصلي على أصابع (المتلقي) - أو المترجم - انطلق سعدي ينجز الترجمة التي يحلم بها ويسعى إليها، فجاءت ترجمة سعدي (وهذه وجهة نظري الشخصية المبنية على قراءات متعددة وعميقة ومقارنات متأنية للنص اللوركي مترجماً إلى العربية بأكثر من حبر) أقول جاءت ترجمة سعدي أكثر عمقاً ًورهافة من ترجمة ناديا، بل إنها جاءت متفوقةً على ترجمة عبد الصبور الذي كان بارعاً هو الآخر في ترجمته للوركا وغير لوركا، خصوصاً لجهة كونها (ترجمة سعدي) أكثر قرباً من تخوم القصيدة العربية الحديثة لغةً وبناءً وإيقاعاً..

ولنأخذ هذا المقطع من قصيدة بعنوان (طريق)، وهو أيضاً للوركا، مترجماً بحبر ناديا ظافر شعبان، لنقارنه بما ترجمه سعدي يوسف، ليتضح الفارق بين الترجمتين :

(تلك الأحصنة المروبصة

ستحملهم إلى سردابِ تلِّ الصلبان

حيث يرتعد النشيد

في صدورهم

سبع أنّاتٍ مسمرة)..

ولنقرأ معاً المقطع نفسه من القصيدة نفسها التي ترجمها سعدي يوسف بعنوان (رحلة) هكذا:

(ستأخذهُمْ جيادُهُمُ مسرنمةً

إلى تيهٍ من الصلبانْ.

حيثُ الأغنياتُ هناكَ ترتجفُ،

وحيثُ السبعة ُ الأحزانْ..

مسمرّةً..)

وهنا لا يسعني إلا أن أسأل المتلقي سؤالاً بسيطًا وعفويّاً هو: في أيِّ المقطعين عثرتَ على الشعر حقّاً؟ أفي المقطع الذي ترجمته السيدة ناديا؟ أم في المقطع الذي ترجمه سعدي يوسف؟ وفي أي ِّ المقطعين تجد الشعر مكتوباً بحبر الروح؟

ألم يمسسك سعير النص في ترجمة سعدي؟ ذلك السعير الذي يسكن المترجم حين يكون في الوقت نفسه شاعراً، بحيث يظل النص المترجم على يديه زاخراً بالشعر، وسعيره، وتدفقه، ووهجه، وألقه، وتميزه، وفرادته، وشموخه، وكبريائه العظيم.. وبغض النظر عن تشبث المترجم بالوزن والقافية أو إهمالهما، ندرك الفرق واضحاً بين نصّ شعريّ يترجمه مترجمٌ فحسب، ونصّ شعريّ يترجمه مترجمٌ وهو في الوقت نفسه شاعر متميز وبين يديه مناجم من لغة فارهةٍ، وكنوز من أدوات البوح والقول والخطاب الإبداعي الشاهق. وتترجم نادي ظافر شعبان قصيدة لوركا تحت عنوان (حبي صادق) هكذا:

(آي، كم يكلفني،

أن أحبك، كما أحبك.

عاشقاً، يؤلمني الهواء،

يؤلمني قلبي

وتضايقني قبعتي.

من يشتري لي،

هذا الشريط المجدول بالحرير

وهذا الحزن لسلك أبيض

لأحوك مناديلي؟

آي، كم يكلفني

أن أحبك، كما أحبك).

ويترجم سعدي يوسف القصيدة نفسها، ولكن تحت عنوان مختلف عن عنوان ناديا هو: (الأمر حق)، حاضراً فيها بحسه الشعري العالي وبروحه التواقة لجمال اللغة وبهاء الإيقاع وفرادة البوح العاطفي الجميل:

(آهٍ...

كم صعبٌ أن أهواكَ

كما أفعل...

من حبك

تؤلمني الريحُ

ويؤلمني قلبي

حتى قبعتي تؤلمني.

من ذا يبتاعُ شريطي

وأسى القطنِ الأبيضِ هذا..

كي ينسجَ منديلاً منها؟

آهٍ... كم صعبٌ أن أهواكَ

كما أفعل...)

أليس ثمة فرق بين الحبرين: حبر ناديا ظافر شعبان،

وحبر سعدي يوسف؟

أليس ثمة فرق شاسع على المستوى الشعري (طالما نتحدث هنا عن الشعر) بين هذا المقطع الذي ترجمته ناديا:

(عاشقًا يؤلمني الهواء

يؤلمني قلبي،

وتضايقني قبعتي)

والمقطع نفسه الذي ترجمه سعدي:

(من حبك

تؤلمني الريحُ

ويؤلمني قلبي،

حتى قبعتي تؤلمني)

إني لأجد نفسي مترنماً بالمقطع الأخير ومأخوذاً به، أعني الذي ترجمه سعدي، كما ألمس في القلب جمرة الصبوات، وفي الروح زهرة البوح وعطرها الفاتن..

ترى هل لمستم جميعًا ما لمست ُ أنا؟

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة