Culture Magazine Monday  03/12/2007 G Issue 225
فضاءات
الأثنين 23 ,ذو القعدة 1428   العدد  225
 

بعض من عرفت! «9»
عبد الفتاح أبو مدين

 

 

سبعون يا صحبي

بعد هذه الوقفات التي طال بعضها شيئاً ما، أريد أن أقف مع تلك القصيدة التي يرثي الشاعر فيها نفسه، والتي ألقاها الأستاذ الرفاعي يوم 12-10-1413هـ، في تكريمه في النادي الأدبي الثقافي بجدة، ومطلعها:

سبعون يا صحبي وجلّ مصاب

ولدى الشدائد تعرف الأصحاب

وكنت أوثر أن يقول صاحبي وحان أو طاب مآب، أما جل مصاب، لم يكن روحياً في المسلم والمؤمن الملتزم، ولعل تعبيره فلتة غير مقصودة، رحمه الله.

سبعون ياللهول أية حقبة

طالت وران على الرحيق المصاب

أقول الحق، إنني اهتززت من هذا المطلع، لأني لم أسغه، منذ سماعه من صاحبه قبل ست عشرة سنة، وأنا أعرف وواثق من إيمان صاحبي وقوة إسلامه والتزامه في كل شيء من حياته بالإسلام شرعة ومنهاجاً، حتى الأدب لا يحب منه إلا الملتزم، ولم أر ممن كتب عن الرفاعي بعد رحيله، لم أر أحداً وقف عند مطلع القصيدة يتأمله! وأنا أدرك أن الرجل قاسى في آخر عمره من المرض الخبيث، وكان صابراً محتسباً حتى إنه رفض إجراء عملية علّها تكون نهاية الداء، وأنا لا أسمي ذلك تشاؤماً ولا يأساً، لأن المؤمن محتسب لقدر الله وقضائه.. ولعل مثلي كان يتطلع إلى أن يحمد الشاعر ربه الذي بلغه السبعين يعيش حياته هانئاً سعيداً بما نال من جاه ومراتب وظيفية ونصيب أدبي كبير وشهرة فيما أنتج من أدب طابعه إسلامي ملتزم. وخواتم الحياة بيد الله، والملتزمون يدعون خالقهم وتلهج ألسنتهم بأن يحسن الله ختامهم، وأحد الشعراء الجاهليين، حين بلغ الثمانين قال:

إن الثمانين وبلغتها

قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

لم يضق بحياته وحاله، وأرجو أن يكون فهمي خاطئاً لفهم ما قصده الشاعر غير وخير ما فهمت، ذلك أني في شك، ولم أجسر حين ألقى أخي الرفاعي قصيدته يوم تكريمه، ولا بعد ذلك بقية أيام حياته، لم أجسر قط أن أستوضحه فيما قال وفهمي له، وقد يكون خطأ.. أنا لا أشك لحظة وما دونها في عقيدة وإيمان صاحبي المطلق بربه والقدر خيره وشره من الله تعالى.. وإذا أتيح لأحد من الكاتبين الوصول إلى تخريج يصحح لي ما رأيت وذهبت إليه شريطة أن يكون حقاً ومقنعاً، فأنا له شاكر ومقدر.

وقد استمتعت بالقصيدة يوم ألقاها صاحبها مع أولئك النخبة من الحاضرين والمشاركين في التكريم، وسمعتها مرة أخرى يوم 14 من شعبان 1428هـ، وطربت لها كنسيج أدبي، وتأثرت بوقعها كنص وداعي واستعداد للرحيل من هذه الحياة الفانية.. ويقول الأخ الرفاعي:

تتراكم الأعوام فوق رؤوسنا

حتى تئن من الركام رقاب

أجل: يثقل الجسم وتضعف الحركة، وإذا صحب ذلك داء، فالعبء أثقل وأنكى، وإذا كان الشاعر القديم أنَّ حين بلغ الثمانين، وثقل سمعه، فالذي يمتحن بالأسقام آلامه أكثر وأكبر.. ويصور الشاعر متاعب طفولته، وحتى شبابه لم يكن فيه متعة الشباب صحة ويسر حياة ومتعة، فقال:

سبعون في درب الطفولة شوكة

أما الشباب فليس ثم شباب

وطموح الفتى ساقه إلى جد وكد وكبد الحياة، ولا يكون ذلك إلا عبر قسوة حياة معايشة وممارسة. نعم: الحرمان سبله قاسية قاحلة لا هوادة فيها.. والخيال شيء من أمل وتسلية يسبح فيه الإنسان وكأنه في حلم يطمع.. أن يفضي به إلى سعادة وما تهوى النفس.

وهكذا دأب الحياة الدنيا سراب في سراب وإن تبسمت الأيام والليالي فيها، إلا أن السراب ينداح قبل ذلك وبعده، فالجمع تتفرق ببعد أو فناء، وهكذا الحياة الدنيا لا تدوم على حال، وما أكثر الذين يغترون بها فيبنون قصورهم الشاهقة، وينسون أنها متاع الغرور كما أعلن الكتاب العزيز، والذين يعتبرون يدركون أن دوام الحال من المحال، والقرآن الكريم يذكر. قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}(سورة الروم 54).

وقال الشاعر:

سبعون تغتال الليالي صفحتي

فينم عن آثارهن إهاب

مراحل وتغير في الشكل، وكلها علامات للعبرة والتذكر، والذي يكابر كما أشار الشاعر في البيت الذي بعد الذي قدمت، نعم، فإن اختلاف النهار والليل أقوى من الإنسان الواهن، ويغلب إذا كان واعياً أو سادراً.

إن كنت كابرت السنين فإنها

أقوى وأعنف إذ يحين غلاب

ويشكو الشاعر آلامه، وأنها حرمته متع الحياة وأطايبها، فقال:

تعبت من الألم السنون وأغلقت

بيني وبين أطايبي الأبواب

والسنون هي عمره وأيامه في الحياة، وتعبها يعني تعبه هو..

حنّت إلى عبق التراب جوانحي

لا غرو يشتاق التراب تراب

وكأنه كان يحلّق في الفضاء، أو أن جوانبه التعبة ودَّت أن تعود إلى أصلها علّ كربها يخف أو ينحسر، فقد أعياها الأين وطول المسير في حياة غير باقية.. وكعادة صاحبي في تواضعه وبوحه، يجدد إعلانه عن مستواه الفكري فيقول:

إني لدى التعريف ربع مثقف

صحب الكتاب، فلم يخنه كتاب

نعم، فالكتاب خير جليس كما قال المتنبي:

وخير جليس في الزمان كتاب

وكما قال أحمد شوقي:

أنا من بدّل بالكتب الصحابا

لم أجد لي وافياً إلا الكتابا

وجميل قول شاعرنا:

ركنت إلى السفح القريب مطامعي

والسفح لا يهفو إليه عُقاب

طوبى لمن جعل المحبة جدولاً

وسقى أحبته، فطاب وطابوا

وحاضر الفقيد في النادي الأدبي الثقافي بجدة، بتاريخ 23-5-1405هـ الموافق 3- 2-1985م، بعنوان: (في صحبة زكي مبارك)، والأستاذ الرفاعي كان يتابع الدكاترة زكي مبارك في معاركه في مجلة الرسالة - للزيات، وكان مشغولاً بهذا الأديب الضاري المعارك، وهو شبه مصارع، وقد سمى تواصله مع صاحبه بأنها صحبة فكرية لأدبه، وهو لم يره، ولم يجتمع به، وحديثه عنه - انطباعات، وارتباط الرفاعي بزكي مبارك، كما قال (يعود إلى عهد الدراسة في المرحلة الابتدائية). وقد نشرت محاضرته في المجلد الخامس، من مجلدات المحاضرات التي أصدرها النادي.. وحين صحبت أخي بعد إلقاء محاضرته مودعاً، قدمت إليه مظروفاً به مكافأة رمزية، فأبى أخذها.

***

وقرأت كتاب الدكتور محمد مريسي الحارثي: (عبد العزيز الرفاعي - أديباً)، فاستمتعت بما قدم الكاتب من دراسة منهجية مركزة على أدب الرفاعي، حيث وقف على شعره ونثره، ويعد الرفاعي إبداعياً من خلال شعره القليل الذي اختاره من ديوانه، وسمّاه: (ظلال ولا أغصان، الذي طبع في عام 1413هـ، قبل وفاته بعام، ويعتبر هذا الإنجاز الدراسي مرجعاً لأدب الرفاعي نثراً وشعراً، ذلك أنه دراسة متقنة لكاتب مجيد في درسه وأدبه والتزامه، الذي كثيراً ما يعرضه للجدل مع أصحابه في اختلاف الرأي، وهذا من طبع الحياة وما ينداح فيها من دراسات وآراء شتى، وما يضطرب فيها من فكر الذين يعيشونها منذ أن وعى الإنسان السبيل إلى التأمل فيما يقال ويدور في أذهان الذين يشغلهم الأدب والثقافة، والمعرفة بعامة.

....يتبع

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة