Culture Magazine Monday  03/12/2007 G Issue 225
فضاءات
الأثنين 23 ,ذو القعدة 1428   العدد  225
 

المنهج الأسطوري في النقد العربي الحديث «4»
د. لمياء باعشن

 

 

وقضية الانزياح هذه لم تظهر في النقد العربي الحديث إلا بعد بروزها في مجال التوظيف الأسطوري في الرواية، ثم أطلقت الظاهرة على جميع أشكال التناص في الأدب المقارن. وقد تعامل النقاد مع السيرة الشعبية بوصفها نصاً يخضع لاستعمالات جديدة تنزاح به عن الاستعمالات القديمة وقاموا برصد ما يطرأ على الأسطورة من تطور على يد الكتاب الذين يرجعون إلى الأسطورة الأساسية ويعيدون صياغتها بعد تحقيق شئ من التحوير وفق الضرورات القائمة دون الإخلال ببنيتها الدلالية. ويتفق هؤلاء النقاد على أن الهيكلة الأسطورية الأولى ثابتة وتظل كما هي من جهة، ولكنها متغيرة من جهة أخرى بمعنى أن الموحيات تتغير على شكل انزياحات مطابقة غير كاملة يسميها جلبرت ديوران ديكورات) تزخرف الوحدات الأساسية وينسج على منوالها توليفة جديدة تحمل روح العصر.

ولا يعني هذا النشاط الملحوظ في دراسة السرديات من المأثورات الشعبية والنصوص الروائية أن الساحة قد خلت من إسهامات النقاد في تطبيق النقد الأسطوري على الشعر العربي. فقد أنكب النقاد على تتبع الأسطورة ومصادرها وتجلياتها في الشعر الجاهلي، ثم في شعر صدر الإسلام وأخيراً في العصر الحديث. ولسنا هنا بصدد تعداد الدراسات التي تدخل في صلب النقد الأسطوري، ولكننا نذكر على سبيل المثال أشهر تلك الدراسات: الأسطورة في الشعر العربي المعاصر ل د يوسف حلاوي، والأسطورة في الشعر المعاصر ل د أسعد رزوق، ومضمون الأسطورة في الفكر العربي ل د خليل أحمد خليل، والأسطورة في شعر السياب ل عبد الرضا علي، وأسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث ل ريتا عوض، والرؤيا في شعر البياتي ل محي الدين صبحي، والصورة في الشعر العربي للدكتور علي البطل. وقد حاولت هذه الدراسات وغيرها أن تحدد الملمح الأسطوري وامتداده وتشعبه داخل فضاء الرؤية الشعرية واهتمت بالتأمل في طبيعة الميثات التي يستخدمها الشعراء المحدثون كأداة تعبيرية وظاهرة فنية وفي طريقة استخدامهم لها. ومن الدراسات البارزة التي تناولت الميثة في الشعر العربي الحديث كتاب ميثات عربية وشرقية في الشعر العربي الحديث) للدكتور رشيد مبارك الذي يبحث تحديداً في ميثة الموت والانبعاث مستخدماً رموز المسيح وتموز طائر الفينيق، وميثة الاغتراب والترحل مستنداً إلى شخصية السندباد، ثم ميثة الخلاص والجلد المتمثلة بشخصيتي نوح وأيوب عليهما السلام.

ويعرض بعض الباحثين الأداء الأسطوري في شعرنا وكيف انتقل من التعامل مع الرموز الأسطورية التي تحيل إلى خلفيات مرجعية تتعلق بالتاريخ البشري إلى التعامل مع منطق الأسطورة، ومن ثم إلى استخدام الإطار العام للأسطورة وصياغة لغة الأسطرة محاولاً إعطاء القصيدة أكثر من عمقها الظاهر ونقل التجربة من المستوى الشخصي إلى مستوى إنساني. كما بينت بعض الدراسات طرق التوظيف الأسطوري المباشر منها والضمني والرمزي والإيحائي، وقامت بمتابعة ظهور الشخصيات الأسطورية في القصائد، فهذه عشتار في أنشودة المطر) وتلك العنقاء في بعد الجليد)، ثم بتحليلها وإظهار المرتكزات التي تقوم عليها.

وعلى وجه العموم، فقد شهد التأليف النقدي العربي الحديث جهوداً متنوعة سلطت أضواءً جديدة على الأدباء القدامى والمعاصرين على السواء، كما قامت باستخراج التراث وجمعه ودراسته ومقارنته بالأساطير الشرقية والغربية. ولكن الأطروحات النقدية لم تخرج عن إطار رصد الطقوس والشعائر التي وردت قبل الإسلام وتوثيقها، وتكاد تقتصر حتى الآن على محاولات تثبيت معاني هذه الأسطورة وتلك، أي على تفسير لشخوص وأحداث أسطورية باعتبارها رموزاً اصطلاحية دون أن تستشف العوامل النفسية الدفينة التي تدفع الشعراء إلى استخدام الأسطورة أو تحليل مضامين النماذج المستلهمة بإبراز الأنماط الكامنة في الذواكر القديمة أو انعكاساتها على هندسة النص الأدبي، وكأن استخدام الأسطورة في الخطاب الأدبي العربي الحديث هو نوع من التجريب الجمالي الذي يقف بها عند مشارف الرمز وانبعاث المشاعر المتعلقة به.

وإن كانت هذه بعض مثالب الجانب التطبيقي للنقد الأسطوري في دراسة الأدب العربي الحديث، فإن الجانب النظري له قد عجز تماماً عن مواكبة الجانب التطبيقي بمثالبه وبقي ثابتاً ثبات الهياكل الأسطورية الأولى، فبمتابعة نشاط التنظير العربي الحديث نجد أن النقد الأسطوري لم يكتسب أي أبعاد أيدلوجية لم تكن مرتبطة به قبل النقل إلى النسيج الثقافي العربي. وهنا لا بد من وضع علامة استفهام حول منهجية البحث الميثولوجي ومعظم منجزاته لنجد مرة أخرى أن المصطلح يقع في صميم المنظومة المنهجية.

ويبدو أن هنالك غموض آخر يكتنف منهجية النقد الأسطوري، فها هو الدكتور أنس داود مثلاً يصف دراسته بعنوان الأسطورة في الشعر العربي الحديث) بأنها: أول دراسة تضع ظاهرة استخدام الأسطورة في الشعر العربي المعاصر في ضوء مصادرها والمؤثرات الأجنبية في الاعتماد عليها)، ولكنه يسمي المنهج الذي اختاره في هذه الدراسة: منهج خدمة النص) أو منهج الرؤية الداخلية للنص). د. أنس داود، الأسطورة في الشعر العربي الحديث، المنشأة العربية، ل ت، ص 9). وها هو الدكتور رشيد مبارك يصف منهج دراسته للميثات في الشعر العربي الحديث بأنه: منهج يعتمد أساساً على المرويات التاريخية والدينية ولا يعتمد نظرية نقدية جاهزة تفرض مقاييسها على الشعر العربي وتكون غريبة عن طبيعته) ميثات عربية في الشعر العربي الحديث، د. رشيد مبارك، دار ماهر، 1995، ص. 12). ثم نجد عبد الفتاح محمد أحمد يقول في كتابه المنهج الأسطوري في تفسير الشعر الجاهلي) أن هذا المنهج محاولة لإيجاد منهج نقدي من هذا النوع يستمد أصوله من ضروب العلم المختلفة يكون أكثر فهماً للأدب وأكثر قدرة على تفسيره) المنهج الأسطوري في تفسير الشعر الجاهلي، عبد الفتاح محمد أحمد، دار المناهل، 1987، ص 8 ).

ولا يمكن أن يكون المنهج محاولة لإيجاد منهج إلا نتيجة التشويش المرتبط بالمصطلح نفسه والخلط القائم بين منظريه. ويظهر الخلط والغموض واضحين في قول الدكتور يوسف حلاوي: وقد يلجأ الشاعر إلى استخدام المنهج الأسطوري، وهو كل عمل شعري تكشف لنا بنيته عن تركيبة أسطورية، عن طريق شحن الألفاظ بإيحاءات جديدة مضافة إلى معناها الأصلي) الأسطورة في الشعر العربي المعاصر، د. يوسف حلاوي، دار الآداب، 1994، ص 340). فمرة المنهج الأسطوري أداة يلجأ إليها ويستخدمها الشاعر، ومرة أخرى المنهج الأسطوري هو العمل الشعري ذاته. وتبقى بعد كل ذلك المصطلحات التي يستخدمها النقد الأسطوري من أمثال الأنيما والانيموس مشكلة قائمة لم يمتصها نظام النقد الأدبي العربي.

وبتتبع نظريات الغرب حول توظيف الأسطورة في النص نجد أنها هي أيضاً يكتنفها نفس الغموض وذلك لأن كلمة Myth أي أسطورة تحتل مكاناً وسطاً بين الأدب والفلسفة والأنثروبولوجيا وهي تعني كما يرى مايكل بيل، قصة تأسيسية غاية في الأهمية ولكنها أيضاً غاية في التمويه).

9. وهذا التكوين الذي نطلق عليه اسم الأسطورة هو في ذاته نصا يمتزج فيه التأمل النفسي والعقائد الدينية وعلم الطبيعة والتاريخ والسحر والفلكلور، حتى وإن انفلت من الإطار الواقعي. فيكون بذلك الخطاب الأدبي الوحيد الذي يهدم الجدران القائمة بين الأدب وبقية العلوم الإنسانية. لذا فإن كل الدراسات التي تعرضت للأسطورة استخدمت أدوات تأويلية خاصة بعلوم أخرى مثل علم الإنسان الاجتماعي وعلم النفس والتاريخ الحضاري، كما وأن الأصول النظرية العامة والمفاهيم الأساسية التي ترسّخ مصطلحاتها مستمدة من مقولات وفروض الدراسات العلمية في المجالات النفسية والأنثروبولوجية والإثنوجرافية والروحانية.

يرصد المشتغلون بالنقد الأسطوري الانزياحات التي تظهر في النصوص القائمة على استلهام المخزون الوراثي للمخيلة الجمعية البشرية والكشف عن دلالة المرجعية الأسطورية الكامنة خلف الرموز الشعرية. أما الأديب الذي يعمل على بعث التراث فقد يكتفي بإعادة تشكيل الأساطير في قالب جديد، وقد يوظفها كبنية تفعيلية لنصه الذي يصنف على أنه تناصي intertextual أو ميتاناصي metatextual. وربما بدا لبعض نقاد المنهج الأسطوري أن أطروحاته تضبط فعاليات التخيل وتوحدها كما تضيق آفاق الأعمال الأدبية وتؤطر مرجعيتها وتقلل تنوع مصادرها، فكأنما كل الأدب منحدر من أصول أسطورية، وكأنما الأدب هو مجرد انتقال إلى مجاهل الزمن وخفايا النفوس. ولكن النقد الأسطوري لا يلغي غيره من المناهج المتوفرة كأدوات تأويلية للنصوص، ودون مغالاة فإن المنظرين لهذا النهج النقدي قد قدموا إسهامات كبيرة للنظام الأدبي وفتحوا آفاقه التأويلية، وأضافوا إضاءات جديدة على نصوص كلاسيكية لكتاب كبار من مثل بترارك ودانتي وسيرفانتس وغوته وبلزاك، كما حظى كل من بودلير وفرلين ورامبو ومالارميه بكثير من الاهتمام والتمحيص.

كما وتخضع نظرية النقد الأسطوري في النظام الأدبي أيضاً لقوانين صاغتها الفروع النقدية الأخرى، فنجدها تسير في مسارب عدة حيث تناولتها القراءات الجمالية والموضوعية التقليدية أو البنيوية أو الشكلانية أو التفكيكية أو اللغوية أو الدلالية أوالسيميائية أو الإثنو أدبية أو التناصية المقارنة. أما الاتجاه نفسه فلم يكن خالصاً أو نقياً عند هذا الناقد أو ذاك، بل ظل متداخلاً مع اتجاهاتهم النقدية يسقطونها عليه كل من زاويته. وإن كان النقد الأسطوري نظاماً رمزياً قائماً على الإيحاء والتأويل المجازي، فكل نقد في هذه الحالة لا بد أن يكون نقداً أسطورياً ما دام الأدب فناً مجازياً. وعليه فإن حركة النقد الأسطوري لم تفلح في بلورة ملامح منهجية خاصة به والباحث عن المنهج الأسطوري كأداة نقدية ذات آلية تحليلية محددة سيكتشف أنه بالفعل منهجاًً أسطورياً.

...انتهت

-جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة