Culture Magazine Monday  03/12/2007 G Issue 225
فضاءات
الأثنين 23 ,ذو القعدة 1428   العدد  225
 

اقتصاد المثقف العراقي ( 1-5 )
قاسم حول

 

 

{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}

قرآن كريم

المثقف، الكاتب والفنان العراقي في الحقبة الملكية من تأريخ العراق لم يكن بمقدوره العيش من نتاجه الثقافي، فالشاعر الرصافي مثلاً كان يبيع السكائر في الشارع في سلة من ورق النخيل (الخوص)، وكان يبيع نوع السكائر المسماة باسم الملك غازي، وهي سكائر غازي، فوضع إعلاناً قبل أن تتخذ منظمة الصحة العالمية قرار منع الإعلانات عن السكائر والخمور! فكتب في كرتونة نابتة داخل سلة السكائر (دخن سيكارة غازي.. في وقفة واجتياز، وجاز نصحي بشكر.. إن كنت ممن يجازي). وكان يعيش قوت يومه من بيع السكائر وينام في الفنادق الشعبية التي تسمى (المسافر خانة) أي خان المسافر، وقال شعراً (سكنت الخان في بلدي كأني.. أخو درب تقاذفه الدروب). أما بقية الكتاب والفنانين فكانوا يعملون في دوائر الدولة وفي وزاراتها. وكان نصيب أغلب الفنانين أنهم عملوا في المصارف والبنوك. فكان المثقف يقضي كل وقته في عمله من الصباح حتى المساء ولم يتبق له من الوقت لكي ينتج سوى في فترات استراحة ليلية وفي أيام عطل الأسبوع. وكان يتعذر عليه السفر لأن المردود المالي من الوظيفة لا يكفي سوى بالكاد لتغطية متطلبات البيت والعائلة، فبقي المثقف العراقي محروماً من التفاعل مع مدنية ومدينية الحضارة العالمية المعاصرة. وأصبحت الثقافة ونتاجها أقرب إلى الهواية منها إلى الاحتراف. ولو ألقينا نظرة على النتاجات الأدبية من القصص القصيرة وبعض الروايات ومن المسرحيات والأعمال الدرامية التلفزيونية إبان تلك الفترة لوجدنا أن أغلب موضوعاتها كانت مستقاة من طبيعة عمل المثقف، فتجد الكاتب الذي يعمل في وزارة الشؤون الاجتماعية مثلاً ينتج قصصاً عن حكايات الزواج والطلاق وشخوص قصصه مستقاة من شخصيات الموظفين في وزارته، وتجد نكهة المصارف والتجارة والمال في مسرحيات الفنانين الذين يعملون في المصارف.. كانت النتاجات انعكاساً للوظيفة في المؤسسة التي يعمل فيها الكاتب. وكانت فرصة الصحفيين أوفر حظاً في التفرغ للكتابة حيث كانوا يمارسون جانباً من مهنتهم. فالصحفيون وبعض الأدباء يمارسون نشاطهم الصحفي ويعيشون منه ولكن كانوا يعيشون في الحد الأدنى من متطلبات الحياة الاعتيادية، ومن دون ضمانات اجتماعية في حال مرض أو مضى أحدهم به العمر طويلاً أو تقاعد عن العمل من دون راتب تقاعدي.

في تلك الفترة على سبيل المثال لم تكن ثمة روايات عراقية. كانت فقط تنتج القصص القصيرة والمسرحيات الطويلة كان صعباً العثور عليها بالنسبة للمخرج سوى المسرحيات العالمية الطويلة، فيما التمثيلية الدرامية والتلفزيونية القصيرة كانت هي السائدة. ويبدو لي أن فسحة الإستراحة كانت هي الأخرى قصيرة في الحياة اليومية للمبدع العراقي. ولم تبدأ مسيرة الرواية والمسرحية الطويلة سوى بعد المرحلة الملكية التي جرت بعد نهايتها تغييرات درامية فيها الكثير من الإيجاب والكثير من السلب أيضاً، وكانت بداية لمتغيرات حياتية ومعيشية على كافة الصعد ومنها الصعيد الثقافي. ولو نظرنا إلى قوة الإبداع في الفن التشكيلي العراقي في تلك الحقبة من العهد الملكي، فإننا نرى السبب يعود إلى أن أساتذة فن الرسم والنحت الذين درسوا هذه الفنون في أوربا هم الذين شكلوا القاعدة الأساسية والمهمة لفن التشكيل العراقي لأنهم كانوا يدرسون مادة الرسم والنحت وبرزت أعمالهم من خلال ممارستهم لحرفتهم وتحقيق المردود الاقتصادي منها كمدرسين مستفيدين من ورش العمل داخل معهد وثم أكاديمية الفنون الجميلة في العراق. (فائق حسن، خالد الجادر، جواد سليم، نوري الراوي، إسماعيل الشيخلي، فرج عبو، شاكر حسن آل سعيد..، ثم الجيل الذي تعلم منهم وأكمل دراسته في أوربا الغربية والشرقية وعادوا ليأخذوا مكانتهم في معهد وأكاديمية الفنون الجميلة).

عندما كان الكاتب أو الفنان يرغب السفر خارج بلده لقليل من الحرية والانفتاح على الحياة وزيارة متاحف العالم ومعارض الرسم المنتشرة هناك والتزود في المعرفة وزيارة مصاهر النصب والتماثيل ومعرفة أسرارها كان يطلب سلفة من مصرف الرهون بما يعادل أربعمائة وخمسين دولاراً يظل يدفعها أقساطاً شهرية على حساب ميزانيته الشهرية ومتطلبات العائلة ومدارس الأولاد. وإذا ما صادف أن تصدعت الدار وكان الفنان أو الأديب بحاجة إلى ترميمها فإنه يرهن داره لدى المصرف العقاري ليستلف مبلغاً آخر من المال، وبذلك يتقاسم نصف راتبه البسيط مصرف الرهون والنصف الآخر المصرف العقاري فيبقى يعيش حالة من الضنك والصعوبة وينعكس ذلك بالضرورة على كم نتاجه حيث يدخل في دوامة العوز والفقر وبعضهم يصل حد الفاقة. فكان معدل عمر الشخصية العراقية الفقيرة والمتوسطة والشريحة المثقفة وأغلبهم من هذه الفئات الاجتماعية هو الستين عاماً وبعضهم يرحل عن الحياة في الخمسين أو حتى قبل أن يبلغها، وسبب ذلك يعود إلى الحالة الاقتصادية المتدنية، حيث ينعدم النوع في القيمة الغذائية بسبب محدودية الأطعمة وفقر الثقافة الغذائية ومتطلباتها وكذا فقدان وسائل الراحة وتراكم المشاكل والحالة النفسية للمثقف العراقي التي كانت تقود أغلب المثقفين ليلاً نحو حانات شارع أبي نواس على نهر دجلة يحتسون الخمور الرديئة يساعدهم على تناولها (مازات) رخيصة وغير مغذية وهي ليست سوى طعم الملوحة والحوامض والزيت من مسلوق الباقلاء والحمص (اللبلبي) وبضعة سلاطات غير نظيفة في حانات من الدرجة العاشرة، كانت تتقاسمها التجمعات الوجودية والشيوعية والقومية فكانت كل حانة حكراً على فئة ثقافية سياسية، وتنتهي سهرات الفنانين والأدباء بوجبات طعام رديئة ورخيصة ومتعبة للأمعاء مثل (الباجة) و(التشريب) ليعود المثقف إلى داره في آخر الليل محطماً لحياته الزوجية والأسرية فينعكس ذلك على سلوك الأولاد في المدرسة والحياة. هذا إذا ما عاد المثقف إلى داره من دون نقاط من الدم على قميصه من لكمة سببها خلاف إيديولوجي أو ثقافي أو مقالة نقدية في هذه الصحيفة أو تلك. فيعود إلى عمله صباحاً وهو محطم الإحساس مثخناً بآلام الندم الليلي ليعود في الليلة التي تليها بذات الآلية تقوده قدماه نحو ذات الحانة ليعيد أداء ذات المشهد الثقافي في حانات شارع أبي نواس. كل ذلك بسبب عدم وجود استقرار اقتصادي للمثقف يقوده إلى الارتقاء برغبات المتعة ونوعية وسائل المتعة الحياتية والذهنية والمعيشية والثقافية. ويستثنى من ذلك بعض الأسماء من المثقفين الذين تركت لهم أسرهم ثروة عرف الكثيرون ااإستفادة منها فعاشوا حياة مترفة قياساً بالآخرين، فطالت أعمارهم وكثر نتاجهم وكان ذلك المثقف مترفاً في موضوعاته وأيضاً في طباعة الكتاب وأطر اللوحات وموادها الفنية.

ولو نظرنا بالمقارنة مع المثقف اللبناني فإننا نجد ذلك المثقف يعرف مكان السهرات الليلية وطبيعة الأنس والاستراحات بسبب توازن الحياة الاقتصادية مع أن الثروات الطبيعية تعتبر في نقطة الصفر قياساً لثروات العراق النفطية والكبريتية والزئبقية الحمراء، فلبنان لم يمتلك في تاريخه من الثروات سوى صوت المطربة فيروز ووديع الصافي ومن ثم هيفاء وهبي ونانسي عجرم! في حين يسبح العراق على بحر من الثروات الطبيعية لأن طبيعة الإرث الاستعماري اللبناني وهو الاستعمار الفرنسي أكثر ذكاءً من الاستعمار البريطاني في العراق القائم على النهب والهروب فيما الاستعمار الفرنسي قائم على فلسفة البقاء حتى عندما يترك البلدان التي يستعمرها وكان يدعم المثقفين باستمرار ولا يزال، وهذا جانب من فلسفته الاستعمارية فيما الاستعمار البريطاني لم يدعم الثقافة بل ولا يرغب في دعمها معتقداً أن نمو الثقافة والمثقفين سيعود عليه بالخراب وتشخيص وقراءة مطامحه، لذلك فهو يعمد على نشر الجهل في البلدان التي يستعمرها، فلم يقدم أي دعم للثقافة تاركاً المثقفين، أما في عوز دائم أو في سجن دائم. ولم يقدم الاستعمار البريطاني للثقافة العراقية سوى مشاريع كولبنكيان التي اقتصرت على إقامة معارض لفن الرسم والنحت وهو الثري الذي رتب توقيع اتفاقيات النفط بين بريطانيا والعراق وحصل على نسبته الثابتة والدائمة من الأرباح فأنشأ متاحف لمعارض الرسم والنحت ما ساعد على نمو الفن التشكيلي أكثر من بقية الفنون والآداب. وقد رحل الكثير من المثقفين عن الحياة وهم دون سن الستين وحتى دون سن الخمسين ورحلت معهم طاقات كان يمكن أن تكون مشاريع ثقافية هائلة في قيمها الفكرية والفنية لما يتمتعون به من قدرة الإبداع التي ظهرت في قصصهم وفي مقطوعاتهم الشعرية وفي لوحاتهم التشكيلية. وبسبب العوز الاقتصادي وفقدان التوازن بين الإبداع ووسائل التعبير والقدرة على تحقيقها، لم يكن العراق منتجاً لتلك الثقافات الفنية والأدبية ولذلك قيل (الكتاب يكتب في مصر ويطبع في لبنان ويقرأ في العراق).

- هولندا sununu@wanadoo.nl


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة