Culture Magazine Monday  10/09/2007 G Issue 215
عدد خاص
الأثنين 28 ,شعبان 1428   العدد  215
 

كل هذا البهاء.. كل هذا العناد
خالد عبد الله الرويشان*

 

 

هذا هو إذن - سليمان العيسى. ما تزال صورة اللقاء الأول مرسومة بماء العين ساكنة في شغاف القلب. تمر السنوات، وتتوالى اللقاءات والصورة تزداد وضوحاً ورسوخاً.

يروعك - أول ما يروعك - بياض شاهق الضوء من قمة الرأس حتى أخمص القدم، جدائل الشعر الأشيب المهيب، قامة الصدق الفارعة، الوجه الناضح بالنور، الطافح ببهاء ساحر غامض، العينان اللتان تشعان القوة والثقة. ولوهلة، ربما خيل إليك أنهما وادعتان هانئتان.. لكنك ستعرف بعد حين، أنها وادعة الواثق، وهناءة الحكيم العارف المجرب. أو لعلها وداعة المكان وهناءة اللحظة. حتى لبسه البسيط يشع ويضيء. فالرجل بياض، نور على نور. ولا يتأتى ذلك إلا لروح تقتات الصدق.. والصدق أبيض في القول والفعل، مع النفس ومع الآخر.

تفرعت دوحة الصدق أفنانا وأفياء:

قوة المبدأ ووضوحه،

عنفوان الشاعر وحماسه،

أحلام الثائر وآماله،

وحده، هذا الرجل عمر من العنفوان. نجوم كثيرة لمعت في سماواتنا ثم تهاوت في شباك الذهب، وتلاشت في فخاخ الغواية.

وحده، عمر من العنفوان، تأمل بدايات معظم أعلامنا (أوهامنا) ونهاياتها. هل من مشعل ضوء قرب نهاية الطريق؟ وإذا كان ثمة ضوء.. هل هو بنفس زخم البداية - إذا لم يكن أكثر - أم أنه يتلاشى وربما انطفأ من أول زخة مطر أو لمسة ريح؟

وحده سليمان العيسى لهب أضاء ويضيء. ترى، أي عاصفة أشعلت هذا اللهب، ومن أي جذوة نور اندلع واندفق.. ومن أي زيت مقدس اغتذى، وأية جمرة عناد خرافية هذه التي لسعت سبات العرب، وأذكت براعم النار والثورة والأمل.

تسعون عاماً من الضوء. تسعون عاماً من أناشيد الجمر.. غنتها معه الملايين وما تزال.

في الجزائر - وكنا معاً - امتلأت عينا سائق التاكسي بالدموع وهو يرى إلى جانبه - صدفة - شاعر أحلامه وآماله وثورته. وعندما بدأ السائق ينشد بعض قصائد الشاعر التي يحفظها من (ديوان الجزائر) كانت عينا الشاعر تسرحان هائمتين بالحلم، غائمتين بالحزن على تلال المدينة الثكلى.. تتساءلان بأسى.. وإذن لماذا؟ هل كان الهوى عبثاً؟

تساؤل موجع انبثق مع آلام وخيبات نصف قرن من عمر الشاعر في صعوده المضيء نحو الانعتاق والضوء والهواء الطلق، حاملاً على ظهره آمال أمته وآلامها.. لكنه، وفي منحنى من طريق وعمر خطر، انبثقت أمامه فجأة عيون من الأمل، ودروب من النور في جبال الآلام وشعاب الصبر.. هنا في اليمن. هذه رؤيته، وهذا حلمه، وتلك نبوأته.

ماذا ترى أيها الشاعر؟ تلك قصة فريدة وحيدة، فريدة في تأريخ الشعر والحب، وحيدة في تأريخ العرب قديمه وحديثه. يقطر شاعر عذوبة روحه وورد دمه، وزهر أحلامه وتجربته، كي يسقي بها تجاعيد هذه الأرض، ويغسل أحزان جبالها المكفهرة الشاخصة، وكي يزرع ولو برق بسمة أو أمل على وجه طفل بائس، أو راعية صغيرة لوحتها عذابات الانتظار. وكانت الثمرة - الإلياذة - ديوان اليمن، أو يمانيات سليمان العيسى، ولا أقول سيفيات، فديوان اليمن وتوأمه (الثمالات) على ضخامتهما، لم يضما بين جوانحهما لا سيفاً - أو حتى سكيناً - ولا ذهباً. كثر هم الذين تساقطوا في عالمنا العربي بين ذهب المعز وسيفه، وبعضهم زاد، فتهالك لأكل ما لا يؤكل، وشرب ما لا يشرب: لحم الأخوة، ودم الصداقة.

يمانيات سليمان العيسى عرس وإكليل، وهوى آسر، عرس شاعر وبلاد، مهرجان فرح وأناشيد أمل، ومناجاة محب. عرس كانت البلاد كلها خيمته من ثغر عدن الأشنب مروراً بشجرة الغريب الأسطورية، وقصائد تعز، وصولاً إلى عمرو بن معد يكرب في صعدة.

كم يصعب حصر لآلئ روح الشاعر التي نثرها في فضاءات هذه البلاد وجبالها، وقراها الغافية بين السحب، أو المستلقية على سفوح الأودية والسهول. لقد نثر لآلئ روحه بمحبة معجزة، وغنى وأنشد كما لم يفعل من قبل. تماهى حلم شاعر بآمال بلاد، فتبارك محب ومحبوب! ذات مساء أذيع على مسامع العالم حصول الشاعر على جائزة كبيرة. الجوائز تأتي إليه، ولا يذهب إليها. هاتفته:

- كيف أنت يا أستاذ؟

- لا بأس.

- أخبارك؟

- لا شيء مهم.

- لا شيء مهم؟ تساءلت

- سمعت خبراً رائعاً أذيع للتو.

- أعرف - أجابني - ثم أضاف: لقد أخبروني صباح أمس رسمياً قبل الإعلان. قلت معاتباً: لماذا خبر سار كهذا وقد أمضينا معظم ساعات النهار معاً.

- يا رجل - أجاب - والله، أكمل وهو يقسم مفخما لفظ الجلالة بلهجته الشامية الرائعة.. والله.. إن مفتاح مدينة إب المهدى إلي قبل أيام أثناء افتتاح مكتبتها العامة لهو أعظم في عيني وأبقى في ضميري. صار الشاعر هو القصيدة، وكان ذلك - لعمري - مرتقى صعبا. حلق، صارت له أجنحة، بينما يزحف آخرون في مراتع النكد الوخم، ومرابع الزهو النهم.

كانت أيامه بيننا - وما تزال - عصراً باهراً بألق الإبداع، باذخا بعطر الوفاء، ونقاء الهدف، وصفاء السريرة، وكريم الخلق.

شكراً أيها الشاعر العظيم،

أنت جائزة هذي البلاد،

وشكراً لروحك المحلقة المجنحة،

شكراً لنورك الذي أضاء حياتنا،

وأنار درب أيامنا..

أيامنا التي تزهو بأنها

في عصر سليمان العيسى.

* وزير الثقافة في الجمهورية اليمنية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة