Culture Magazine Monday  10/09/2007 G Issue 215
عدد خاص
الأثنين 28 ,شعبان 1428   العدد  215
 
العيسى .. بين أسئلة الشعر واشتراطات الموقف
د. وفيق سليطين

 

 

لا شكَّ في أن هذا القِران المشار إليه في العنوان بين الشعر والموقف القومي، هو ما يسم إنتاج سليمان العيسى في مسيرته الشعرية المعمَّرة. حتى إن شعره الموجَّه إلى الطفل لا يبارح هذه الدائرة، بل إنه يشكل حلقة في إطار تجاذباتها، وتبادلاتها الإحالية، ويتعيَّن داخل شبكتها العلائقية التي تشحن كلاً من طرفيها بالآخر، فتستولده منه، وتردَّه عليه، أو تعرَّفه به.

ويرجع ذلك - كما نقدَّر - إلى سببين أساسيين: سبب أول قريب يرتبط بسلب لواء اسكندرون، وبما تركه من أثر غائر في أعماق الشاعر الذي اضطر إلى مغادرة قريته (النُّعيرية) غربي مدينة أنطاكية، وسبب آخر بعيد متجذر في التراث الثقافي الذي نهل منه العيسى وتشبَّع به. فإذا كان أولهما يزكي لديه نزوع التشبُّث بوحدة الأمة، والارتباط العميق بمكونات هويتها الحضارية، والدفاع عنها في حدودها الواقعية أو المتخيَّلة، فإن ثاني السببين يمدُّه بالعدَّة اللازمة، ويزوِّده بالإمكانيات الضرورية، على النحو الذي يجعل منه حضوراً جديداً لجذر أول متأصل في ماضي الذات وتاريخها. فهو - على غرار ما كان - يتقدَّم الآن شاعرَ الأمة، ومؤرخ أحداثها ووقائعها، يزود عن قيمها، ويُلهب بشعره وجدان الجماعة في منحى التطلع إلى تحقيق آمالها واستعادة أمجادها.

ناداهم الموتُ فاختاروه أغنيةً

خضراء ما مسَّها عودٌ ولا وترُ

تقدَّس المطرُ المجدول صاعقةً

وزنبقاً يا شموخَ الأرضِ، يا مطرُ

لا تُفلتي قبضةَ التاريخ عن غدنا

أطفالك السمرُ يا صحراءُ قد كبروا

دمُ الشهيد أعاد اللون لون دمي

وارتد ملءَ جفوني الضوء والبصرُ

من هنا يتأتى إنتاج هذا القِران بين ممكن الإبداع ومقتضيات المنزع، في لحمة لا تنفصم عُراها، ومن هنا، أيضاً، كان المدُّ الشعري عنده - كما يقول عبد العزيز المقالح - مقترناً بالمدِّ الثوري الذي شهدته أربعينات القرن الماضي وخمسينياته، وهو ما بلغ أوجه إبَّان إعلان الوحدة بين مصر وسورية، إذْ انبرى شاعر الهمِّ القومي يضرم لهب العزيمة، ويبث الحماسة في النفوس والرؤوس، بقصائده المتفجِّرة بالمعاني الوطنية والقومية، والمحتشدة بعوامل الشحن والإثارة والتحفيز. وكأن وظيفة الشعر تنبعث في دورة جديدة من تربتها التراثية القديمة، وكأن صوت الشاعر القديم يتردد الآن، في ارتباطه بمصير الجماعة ومنافحته عنها.

ومن هذا المنطلق يمكن أن نشير إلى احتفال العيسى بتقاليد الشعر في كتابه خاصة تمتح من التراث وتحوِّله إلى طاقة جديدة للتأثير والفعل. هذا، فضلاً عن عنايته بوحدة القصيدة، ورصانة الأسلوب، ووضوح التعبير في تأكيد النزوع القومي وتقديمه، وفي دفعه مباشرة إلى أفق التلقي العام، لتأمين التواصل وإحراز الاستجابة. ولعلَّ في ذلك ما يفسِّر لنا احتشاد شعره بالأسماء والأحداث، وبتراكم المحددات والقرائن التاريخية، وبسيطرة العناصر الخطابية، التي تبدو، أحياناً، محلاً للتركيز والاهتمام، يتقدَّم صنعات الشعر، ويحوز أولويته الوظيفية على فنية النص. وهذه المعالم وسواها تسود وتطرد، وتستوي معياراً لقياس غيرها على ذاتها من النصوص الموجهة بغاية الرسالة، وبهدف الإبلاغ، وضرورات التعبئة.

قُلْ للغزاةِ كأسلافٍ لكم خبرُ

أنتم على أرضنا إن ننتفض خبرُ

قلْ للحضارات لن تمحي بزوبعةٍ

صفراءَ تطغى فتستعلي فتنكسرُ

وعلى الرغم من الأهمية الظرفية والسياقية لهذه التجربة، في ضوء استجابتها لشروط الخارج وفعلها فيه، يبدو أنْ لا مندوحة لنا عن مواجهتها بأسئلة النقد الكاشفة، من خلال إجرائها على خصائص النوع الذي تنتمي إليه. وإذا ما غزونا هذا المغزى كان لنا أن نتبيَّن في مدوِّنة سليمان العيسى الواسعة تغليباً للمنزع، وهيمنة للموضوع، واستدراراً لمكوِّنات الوجدان الجمعي، يطغى فيه الإثاري على الجمالي، في تشكيل نسقي تغدو فيه قيمة العناصر لزيمة ذاتها، بمعزل عن تفاعلاتها، وعن درجة إنتاجها في نشاط التركيب وعلاقات البناء. ويعني ذلك، على نحو أو آخر، تعريف الشعر بقوة الموضوع ودرجة حساسيته، في ممارسة تردُّ الشعر إلى أغراضه، وتنتج بها عياراً له. وبحكم هذا التوجه، في منطوق نصوص العيسى، وفي قرارة وعيه, يلاحظ أن هناك توازناً أساسياً يقرن بين الشعر والمسعى القومي؛ ويتبدَّى في كون كلّ منهما انبعاثاً لجذر غائر في مكونات الوجدان وجوهر الهوية. وبهذا، فإن كلاً منهما لا يعدو أن يكون تجلياً لذلك الأصل الساكن، القابع في أغوار الذات والتاريخ، وليس انكشافه هنا إلا مطابقة تُبرز متصل التجانس في هذا الامتداد، وتنفي تحولات القطع وعناصر المغايرة. ولهذا كان الشعر عنده صوت القومية، وصنوها، أو هو تجسيدها في هذا التشكيل اللغوي، الذي يحتفي بالأصول والثوابت المعيارية للروح الساري، الذي يؤمن وحدة القصيدة والموقف، فيكون داخل الكتابة معادلاً لما هو خارجها في الموضوع، ويكون التشكيل مساوياً للتعبير، لا يندُّ عنه، ولا يعدّل فيه، ذلك أن المرجع يشكِّل حضوراً واحداً في الذات والتاريخ، لا يقبل التمايز، لأنه معرّف بالامتداد لا بالصيرورة. وكلُّ ذلك يدفع بنا إلى مساءلة العناصر الساكنة في الشعر وفي الموضوع. وفي مثل هذه المساءلة ما يحمل على كشف المطابقة المفترضة، من حيث هي نتاج التصوّر الساكن المترمّد، على قاعدة رؤية لحظة التأسيس متبدية في تناسخها الذي يحتفظ بالجوهر؛ جوهر الذات، وجوهر القصيدة.

ومن هذه النقطة، بالتحديد، ينبغي أن نسائل تجربة سليمان العيسى بشقَّيها المحددين في العنوان الذي اتخذناه منطلقاً لبناء هذه المقاربة.

اللاذقية - جامعة تشرين


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة