Culture Magazine Monday  10/09/2007 G Issue 215
عدد خاص
الأثنين 28 ,شعبان 1428   العدد  215
 

مشاعل الصحراء والإيلاف في قصيدتين
عبد الله بن سالم الحميد

 

 

هواجس الإيلاف والانتماء، وروائع الروحانية ومشاعل قدسيتها تستقطب الشعراء وهم يشهدون تجليات المشاعر المقدسة، وتلتقي مع أصداء الذاكرة ملامح القوافل القادمة والمهاجرة عبر الصحراء من الشام والحجاز ونجد وإليها.

الحنين إلى الأصالة والصحراء، ومرابع القبيلة تمتزج بوفود القوافل القادمة للحج، والعابرة للتجارة، والمنطلقة للغزو تسكن ذاكرة النازحين القادمين وتتراءى للعابرين فتومض وتدهش وتحرّك الشجون. لا بد أن تتجلى تلك الصور وأطياف الذاكرة لدى أي منكم، وأنتم مقبلون على بيت الله الحرام تستهويكم مشاعل البيت وأضواؤه وتجلياته، وما حفلت به هذه المواقع من آثار وذكريات وعِبر وأحداث ورؤى!

أما الشعراء فتستهويهم أبعاد ومشاعل ومشاعر أخرى وهم يعبرون الآفاق في الصحراء، ويستذكرون التاريخ وقوافل الحجيج العابرة خِلل مناطق الشمال والجنوب من الشمال ونجدٍ وعُمان واليمن، فيعبر الشاعر السوري سليمان العيسى عن تلك القوافل عبر الصحراء التي ترصدها (مشاعل) فيقول معبّراً عن التاريخ والجغرافيا والأدب ممتزجة في الوجدان، والذاكرة بشجون تسكن أعماق الشاعر، وتحرضه على التعبير في قصيدة نسجها بعنوان: (الصحراء تقول لمشاعل) (1).

ترصُدني (مشاعلُ)..

تحركُ التاريخ لم يهدأْ بصدري مرَّةً

قوافلٌ.. تتبعها قوافلُ

قوافلٌ من الرمالِ مرّةً.. ومرّة من البشر

هذي أنا.. أمُّكمُ الصحراءُ

أمُّ الشعر والخطرْ

على جنون الذاريات الهوج كنت أحمل الوترْ

وأطرب الدنيا..

بما يبدعه أبنائي الأوائلُ

ترصدني (مشاعل)

تدق باب السرِّ..

تجلو بعضه.. تحاول..

هذي أنا الصحراء.. أحني هامتي على الأزلْ

وأنثر الأرض على أصابعي..

إذاً الهوى في صدري اشتعل

عجيبة أمك..

هذي اللا نهايات من الكثبان،

والأودية الصفراء والسمراء والقللْ

والأعجب الأروع.. من عاشوا على رملي،

وقالوا الفخر والغزلْ..

وانسكبوا ترنيمة حرّى على طللْ

والعاصفات تملأ العيون.

والأنفاس بالعجاج..

كانوا هواة المستحيل..

رضوا الحياة..

بين الرمل والعجاج

***

وهذه حفيدةٌ..

أنجبها فرساني الأوائلُ

جاءت تدق الباب،

باب السر في صدري،

سأعطيك الذي تهوين يا مشاعل،

أمّكمُ أنا..

سأبقى والعجاج يملأ الدروب مأواكم..

يضمكم صدري..

ترودون بي الغيوبْ

***

في ذات يوم، يا ابْنتي، هيّأَت السماءْ

كلّ الذي تملك من برقٍ.. ومن سحبْ

ومن قناديل.. ومن شهبْ

تكتّفت فوقي، أنا ملحمة الضوء، أنا الصحراءْ

وانهمرت نوراً على الأرض

سقاها ما يشاءُ المجدُ.. ما تشاءْ

ولم تغضْ يوما ينابيعي، ولا المطرْ

هاجر من ضروعي الثكلى..

سأستيقظُ يوماً يا بنتي، سأنفض الخدرْ

عن مقلتي.. هيَّأني القدرْ..

للمعجزات.. تبدّهُ الدنيا بما أحمله

خبّأني القدرْ

مُرِّي على هذي القفار الجرد

في أعماقها تختبئ الجنان

بكل ما تملك من أسرار

قادمةٌ أنا.. إلى الدنيا..

على أناملي الزمان

أطلقه يوماً.. كما أطلقتُه

في قبضتي الزمانْ،

انتظروني.. لم يمتْ في ليليّ السَّحَرْ

للمعجزات.. تبده الدنيا بما أجنُّهُ،

خبَّأني القدرْ..

(نسجت هذه القصيدة في دمشق 12- 12-2006م).

ومشاعل التي يرمزُ إليها الشاعر سليمان العيسى دهشةً بها وإعجاباً ببحثها عن جغرافية الصحراء باحثة في جغرافية المملكة العربية السعودية، وفي وجدان الإنسانية تعبّرُ مشاعل الإنسانة التي تنسجُ هموم أمّتها ووطنها. مشاعل رمز لكل إنسانةٍ مفكّرة تعبرُ عن رؤى الإنسان ومعاناته في هذا الوجود. مشاعل هي تلك الطبيبة الواعية التي ضحَّت بوقتها وهمومها الذاتية لتسهم في مصلحة الإنسانية وخدمة المعانين من البسطاء. ومشاعل هي تلك المعلمة التي تغرس الفضائل والعلوم في نفوس وشتلات طلائع المستقبل.

ومشاعل هي رمز تلك الأم الرؤوم التي أشعلت أصابعها شموعاً تضيء دروب أبنائها لتوكيد الانتماء والفعالية والارتقاء.. تظل عائشةً في ذاكرتي ووجداني إلى الأبد.

مشاعل هي نخلةٌ من نخيل الوطن.. وشجرةٌ باسقةٌ في أعماق بلادي العزيزة المسكونة بنماذج الحب والمصداقية والوفاء. سلامٌ عليك، ومنك إليك يا وطني المضيء بالمشاعل.

* أما القصيدة الأخرى التي نسجها الشاعر سليمان العيسى فهي بعنوان: (القبيلة)(2) التي تعني قبيلة (العرب) التي ينتمي إليها الشاعر العربي الذي ينطق بالعربية الفصحى مهما كان انتماؤه وجنسيته فالعربية كما قال نبينا المصطفى محمد - صلى الله عليه وسلم - ليست بأم ولا أب، إنما هي اللسان لذلك يتعثر التصنيف أمام قدسية اللغة العربية الفحصى التي يعبّر عنها الشاعر سليمان العيسى بقوله:

أحلُم.. أني شاعِر القبيلة

قبيلتي.. أضخم ممّا يحلُم اللقب

تمتد في التاريخ..

لا يدري أحد..

أين رستْ جذورها

وكم توهَّجتْ..

وكم توارى نورُها

ما برحت قبيلتي تصارعُ الدهرَ،

صراع.. عمرها مع الحِقَبْ

ولم تزلْ في وتري قصيدةً

قديمة.. ترضع من صدر الأزل

جديدة..

ما دام لي حلم.. ولي أَمَلْ

سميتُّها قبيلتي..

وبعضُهمْ قال: العرب.

نعم، العرب الشعب، وليس القبيلة، الإنسان الواعي، وليس اللسان المفاخر بجماعة محدودة، وقد أصدر صديقنا الشاعر محمد بن جبر الحربي ديواناً يضمُّ قصيدة واحدة طويلة عنوانها: (هذا زمان العرب) ولا بدّ من التوقف عندها في مكاشفة أخرى تليق بذلك الحضور الإبداعي في ديوان الحربي.

الخاتمة:

هاتان القصيدتان لوحتان تعبيريّتان تسكنهما الصور الشعرية المتجاوزة لكل ملامح التفكير القاصر عن تصنيف الانتماء والتعبير الأمثل للإنسانية الواعية لثقافة الصحراء، وانطلاقة الرؤى الشعرية لطلائع الذاكرة والتراث وهواجس الوجدان المنبثقة من فكر الشاعر ووجدانه وتجلّيات الزمان والمكان في حضرة الشعر وغياب العزلة والاحتمالات الإقليمية المحدودة التي لا تتّسع للانفتاح الواعي على الكون الرائع والأفق الواسع الذي ينبغي أن نعيشه في حياتنا وتعاملنا المعاصر الذي ربما نهرب منه إلى واقعنا المسكون بالأنانية والانغلاق وبالدّور والانكسار.

(1) نُشرت بجريدة الجزيرة (العدد 12502) في 30-11-1427هـ.

(2) نُشرت في ملحق الثقافية بتاريخ 27- 4-1428هـ.

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة