Culture Magazine Monday  10/09/2007 G Issue 215
عدد خاص
الأثنين 28 ,شعبان 1428   العدد  215
 

سليمان العيسى: أجمل ما في لغتنا
عبدالله محمد الغذامي

 

 

من الطائف إلى عنيزة وذلك عام 1381هـ (1961م) حيث عثرت في مكتبة المؤيد على دواوين الشاعر العربي الكبير سليمان العيسى، لم أكن لأفكر كثيراً حول شرائها ولم أكن لأعبأ بكلام عمي - رحمه الله - حينما نصحني أن أوفر فلوسي ولا أهدرها على كتب الشعر، كان ما بيدي من النقود محدوداً وقليلاً وكنت بحاجة إلى كل قرش بيدي لأقضي إجازتي في الطائف وبعدها في الرياض، وكانت تلك أول رحلة لي بمفردي أذهب بها خارج عنيزة، وكنت أسمع من بعض أساتذتي عن أشعار سليمان العيسى وأحفظ نقلاً عنهم بعض تلك القصائد، وكنت أتمنى الحصول على ديوان من دواوينه فكيف بي وأنا هنا في مكتبة المؤيد وأمامي عدد منها. أخذتها وكأني قد فزت بأجمل الهدايا، وصرت أتوعد في نفسي صديقي ورفيق دربي محمد السليم بأن أقدم له عرضاً في مشاركتي هذه النفائس.

أخذت الدواوين وما أطول الأيام إلى عنيزة حيث سأحتفل مع الصحب هناك بهذه الكنوز، وكم كانت الحفلة كبيرة وجليلة حينما عرضت الكتب التي جئت بها من الطائف ومن الرياض بعد ذلك، وكانت دواوين سليمان العيسى أكثرها إثارة ومفاجأة حيث لم يحتسب أحد أنني سأجدها فعلاً في مكتبة في الطائف.

كان سليمان العيسى صوتاً عربياً بهز ضمائرنا ويملأ تصوراتنا، وجاءت دواوينه لتعطي ذلك الشعور حساً مادياً ملموساً عبر الورق والكلمات، وما زالت الدواوين نفسها في مكتبتي وعليها تعليقاتي الطفولية الأولية وما تحمله من مشاعر وطنية ووجدانية هي بالنسبة لي ذاكرة أولى وذاكرة للضمير الأصل في نفوسنا وفي ثقافتنا.

إنه ضمير عربي مثل ويمثل لنا قاعدةً وموقعاً إنسانياً وتاريخياً، وكان هو الصوت الذي إذا قال قلنا معه وإذا تحرك تحركنا معه وإذا جاءت قصيدته سارت بيننا بالتناوب حتى لترى بصمات أصابعنا على الورق وترى عرقنا على الكلمات وهي حبات رملنا وقطرات مائنا ولون عواطفنا.

ونحن إذا كرمناه اليوم فإنما نكرم ضميرنا العربي الذي لا يضعف ولا يشيخ ولا يتراجع، إنه صوتنا وكلمتنا وهو الرجل الذي صدق معنا ولم يخن ذاكرتنا معه قط ولم يصرف ناظره عن صوت المحبة ولا عن صوت الوطنية ولا صوت الأمل حتى مع الأطفال وقد كتب لهم وغنى من أجلهم لأنه ظل يغني من أجل المستقبل ويعد بغد يأتي ويعيد للضمير مكانه وللوطن عزته.

إنه سليمان العيسى حيث يكون الإنسان وتكون الكرامة الإنسانية. بدأ حياته في رحلة طويلة وعميقة من معاناة الوطن وملامسته تراباً وتراثاً، كان يقرأ كتب التراث من جهة ويقرأ حبات رمال الوطن وتخومه من جهة أخرى، وصار يرى المفارقة الثقافية الخطيرة حيث تقدم له كتب التراث صورة لأمة واحدة يقرأ فيها أسماء المتنبي وأبي تمام والبحتري، ولا يرى أمامها إشارة لجنسية ولا لبلد، إنهم عرب بلسان عربي وهم علامات ثقافية كلية غير محددة لا في جغرافية المكان ولا في زمن الماضي، وأمام هذه الصورة الثقافية المتكاملة حسياً وعقلياً صار يرى نفسه مع أهله وهو يربط فراشه وذاكرته ويخرج من قريته مرحلاً ومشرداً، حيث صارت السياسة والاستعمار والحدود تتولى دفعه من جبل إلى جبل ومن وادٍ إلى وادٍ، وبدأ يدرك أن ما كان المتنبي يتمتع به من قدرة على الحركة واجتياح المفازات دون رقيب ولا سائل صار مجرد فقرة في كتاب التاريخ، وها هو حفيد أبي الطيب يمشي على قدميه من خلف أهله والكل يسأله عن اسمه وبلده والكل يوصيه بحمل ورقة ليس فيها شعره وعقله ولكنها تحمل صورته وقد ختمت عليها الحدود والعلامات الفارقة، والتفت الفتى سليمان من حوله ليسأل عن المحيط من هناك والخليج من هنا فاكتشف ويا للهول أن بينه وبينهما أوراقاً وعساكر وحدوداً وتأشيرات، ورأى أن البيد التي من ورائها بيد وكانت هي مراتع المتنبي قد تحولت إلى بنادق للعسكر ومخافر ضد الحركة وضد الحرية وضد التاريخ.

هنا صرخ الشاعر وظل يصرخ، يصرخ بنا ويصرخ بضمائرنا ويصرخ بمروءتنا من المحيط إلى الخليج، وترك حريته وترك متعته وترك فرحه ليجعل من حياته سجلاً لذاكرتنا ليقول لنا إنهم قد سرقوا ضميرنا وإنه هو الوصي على التركة المسروقة، وهذا ما صار.

لقد ظل سليمان العيسى وصياً وأميناً على تركتنا الحضارية المسروقة وعلى ضميرنا المستلب، ومن هنا نقرأ سليمان العيسى ونضعه في أعمق أعماق ضمائرنا لأنه هو من يحمي هذه الضمائر ويبقيها حية إلى أن يأتي طفل عربي في يوم عربي وفي زمن عربي ويأخذ هذه الأشعار ويعيد لها روحها لأنها أشعار عربية تؤكد عروبة المكان وستعيد عروبة الزمان، ولذا توجه إلى الأطفال واستودع السر عندهم، وهو يعرف أنهم آتون، ونحن نعرف أنه هو صوتهم المدشن للحظتهم.

إنه سليمان العيسى، ذاكرتنا وضميرنا وأجمل ما في لغتنا اليوم.

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة