Culture Magazine Monday  10/09/2007 G Issue 215
عدد خاص
الأثنين 28 ,شعبان 1428   العدد  215
 

شاعر الخلاص القومي صورة بالكلمات
د. عبدالعزيز المقالح

 

 

للصورة في ذهني ذاكرة متآكلة حين ترسمها ريشة أو تلتقطها كاميرا، أما حين ترسمها الكلمات فإنها تبقى خالدة لا تبلى ما بقيت الحياة. قد يظن بعضهم أن مصدر هذا الموقف من الصورة يعود إلى محبتي للكتابة وإعجابي بأجمل ما تبدعه الحروف. وهو ظن لا أملك الإجابة عنه الآن، وأنا في طريقي إلى محاولة رسم صورة بالكلمات لشاعر أحببته واحترمته وتعلمت منه. شاعر نقي الروح والسريرة، سامق القامة، يعبر الآن نحو الخامسة والثمانين من عمره وكأنه ما يزال شاباً في الثلاثين أو الأربعين. في عينيه بريق ابن العشرينيات، وفيهما - أي في العينين- يجري نهر من الذكاء والحنان وعمق الرؤية وسلامة النفس.

سار هذا الشاعر بقدميه وعلى كل أنواع وسائل المواصلات القديمة والحديثة أميالاً لا تحصى، بدأها مشياً على الأقدام العارية من قريته (النعيرية) قرب أنطاكية عاصمة اللواء العربي السليب إلى أن وصل دمشق الفيحاء. لم يكن يدري وهو يعبر الحدود المصطنعة من وطنه إلى وطنه أنه سيصبح بعد وقت قصير شاعر الخلاص القومي والمعبر عن شعور مفعم بالاعتزاز والحنين إلى زمن جميل تغدو فيه أمته التي ينتمي إليها باللغة والتاريخ والثقافة أمة واحدة ذات حلم وطني إنساني تدخل به العصر واثقة من نفسها كأي أمة يعيش شعبها الواحد على أرض واحدة ويجمعها شعور ثابت بالانتماء إلى جذر حضاري أصيل وشوق جارف إلى التطور والتقدم.

تاريخ طويل منذ أن خرج الصبي سليمان أحمد العيسى من قريته التي يحاول الآخر أن يسلبها هويتها ولغتها وتاريخها... كانت عيناه -دائماً - تترقرقان بالدموع وقلبه لا يكف عن النبض حنيناً إلى الأم والأب والأشقاء الذين سيظلون كبقية أشجار القرية وأحجارها صامدين وفي الوقت ذاته تظل عيونهم كقلوبهم تنطلق عبر الأسلاك الشائكة والمخافر المدججة بالسلاح إلى يوم يعود فيه الفرع إلى أصله والصبيان الشاردون إلى أمهاتهم وآبائهم وإلى ملاعب طفولتهم، لكن رياح الأطماع العالمية التي كانت وما تزال تهب على الوطن العربي حتى اللحظة حالت دون تحقيق ذلك الأمل بالرغم من كل ما قيل ويقال عن حقوق الإنسان وحق تقرير المصير وإنصاف الأقليات الملحقة بالدول الكبيرة أو الصغيرة.

ربما كان هذا الذي حدث وراء إيقاظ نهر الشعر النائم في صدر الصبي الشارد وما عاناه من جوع وإرهاق، لقد نجح الصبي الهارب من التعصب الشوفيني الذي يحاول بالقوة أن ينهب أرضاً ليست أرضه ويضم قوماً ليسوا بقومه إلى حظيرة قوميته. نجح هذا الصبي الهارب في أن يفجر الحنين المكبوت في الصدور، صدور قومه العرب الذين كانت الأهواء والمنازعات قد ذهبت بهم بعيداً عن جادة الصواب فأصبحوا لقمة سائغة للغزاة والمحتلين. وفي شعر صاف صفاء قلب العربي الذي خرج - ذات عصر - حاملاً رسالة المحبة والعدل والحرية والتسامح، استمر الصبي الشارد الذي صار شاباً ثم كهلاً يغني لوحدة أمته نافضاً غبار السنين عن أزهى وأجمل ما في تاريخها العظيم.

لم تثن الشاعر السجون والمضايقات والمخاطر عن مواصلة غنائه الهادر الشجي، إلى أن وصل صوته الحار المتدفق إلى كل الأقطار العربية بما فيها قطرنا اليمن حين كان شعبنا - باستثناء طلائع محدودة - يغط في سبات عميق.

وبعيداً عن مبالغات الخيال نزلت قصائده حينذاك - وعلى الأجيال الجديدة بخاصة - نزول المطر على البقاع العطشى، وما أظن إلا أن ذلك كان شأن كثير من الأقطار العربية التي استقبلت صوت هذا الشاعر المختلف في غنائه وصرخاته في غضبه وحنانه، ومن حسن الحظ أن صوته رافق ميلاد مرحلة عربية متوهجة شهدت الخمسينيات وبعض الستينيات حضورها المدهش.

هذا هو الشاعر الإنسان الذي أحاول جاهداً أن أرسم له صورة بالكلمات ولكن من يستطيع أن يحدد صورة شاعر كبير في حجم سليمان العيسى بالكلمات؟ وإذا كان في مقدور الكلمات أن ترسم الملامح الخارجية له فكيف لها أن ترسم ما تضيء به أحاسيسه وخلجاته وشبكة مشاعره النقية وهي الأهم من الصوت والوجه والهيئة، بل هي ما يرغب الكاتب في تصويره، وما يرغب القارئ في قراءته؟ أعترف منذ البداية أن الأمر صعب بل هو أصعب من كل كتابة يحلم الكاتب أن ينجزها. لكن ليس أمامي إلا أن أخوض التجربة بعد أن قررت ألا أكتب عن سليمان العيسى شاعراً فقد أصبح من هذه الناحية ملء المكان والزمان العربيين، وبعد أن صرفت النظر عن نثره موضوعاً لهذه الخواطر - ولسليمان العيسى نثر جميل لا يقل جمالاً وشفافية عن شعره - واخترت بمحض إرادتي أن أكون رساماً وإن حالفني الفشل وذلك لأن أحداً لم يحاول - فيما أعلم - رسم صورة قلمية لهذا المبدع الكبير بشعره أولاً ثم بمناقبه الشخصية ثانياً. ولا أخفي أن إشارة عميقة قرأتها للشاعر الكبير سعدي يوسف قد ساعدتني على حسم هذا الاختيار، والإشارة تقول: إنه ليس في مقدورنا قراءة النص الشعري بمعزل عن تمثل شخص الشاعر، وأضيف هنا إلى كلام سعدي وتمثل سلوكياته وطريقة تعامله مع الناس بوصفه نصاً متحركاً شديد الحضور في الواقع. وبعيداً عن كل معنى للمجاملة، لا أظن أن شاعراً عربياً معاصراً قد اكتسب من المناقب الشخصية ما اكتسبه شاعرنا سليمان العيسى، وهي في مجموعها مناقب إيجابية تؤكد أن الشعر قيم وأخلاق ومواقف قبل أن يكون لغة وصوراً وتعابير تأخذ بمجامع النفوس والأرواح، وأستطيع القول إن معرفتي به خلال زمن يزيد على عشرين عاماً جعلتني أتعرف على هذه المناقب عن قرب وجعلتني أدرك - منذ البداية - السبب الذي وضعه في هذا المقام الخاص من الاحترام الذي يجمع بين الإعجاب والتقدير لدى كل من عرفه أو جلس إليه ولا سيما من تلاميذه وزملائه - وهم كثر- على امتداد الوطن العربي الذي حلم به شاعرنا حراً وموحداً وقادراً على أن يتغلب على كل المعوقات الداخلية والخارجية.

لقد صفت نفس هذا الشاعر وتسامت، وكان في شعره العظيم كما في تحليلاته النثرية العميقة نموذجاً فريداً في التعامل مع الناس ومع الحياة ومع الشعر. وما أكثر الجلسات التي كان يرفع فيها يده احتجاجاً عندما يتم التعرض لواحد من الشعراء. وفي بعض الأحيان كان يفضل الانسحاب بهدوء حتى لا يشارك في مذابح النميمة التي صارت في حياتنا خبزاً يومياً، ولاسيما لدى البعض من شباب الأجيال الجديدة التي نشأت - للأسف - في أجواء مريضة موبوءة، وكانت ضحية ظروف العنف اللفظي الذي تحول إلى مستوى من العنف المادي هذا الذي أوشك أن يجرف معه الأخضر واليابس. وما من شك في أن خلو الساحة الثقافية العربية من النماذج القدوة يضاعف من تعاسة المشهد الأدبي ويطرح على الدوام مجموعة من الأسئلة الجارحة التي يوقظها في النفس الحديث عن مناقب شاعر يشكل بحضوره الشخصي كما في إبداعه النموذج القدوة في الإبداع والسلوك... في الكلمة والموقف. شاعر تخلى طوال عمره عن أبسط حقوقه المادية واختار الزهد منهجاً ليصاحبه في شبابه كما في كهولته، وأخيراً في شيخوخته، وهو زهد القادر لا زهد الفاشل، زهد من لا يريد لا زهد من لا يستطيع، زهد لم يقف عند المال والمنصب والجاه بل تعداها إلى الشهرة التي كان وما يزال ينظر إليها كغبار يتفادى أن يعلق بوجهه ويؤذي عينيه.

عندما قابتله أول مرة وجهاً لوجه، (كان ذلك في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي) قلت لنفسي: يا الله ما أشد تواضع الكبار، وكم هو طيب وديع هذا المبدع الكبير الذي هز بقصائده الساحات. ولا أخفي أنني حين رأيته ظننت أنني أعرفه من قبل، وأنه يشبه شعره، لكن ما أدهشني أكثر تواضعه وما انطبع في القلب عن تدفق معنى الألفة والشعور بالطمأنينة والشك في أن يكون هذا هو اللقاء الأول، وكأنما سبقته لقاءات كثيرة في عالم الأرواح، ذلك العالم الذي يجعل من بعض الأشخاص أليفاً وقريباً إلى القلب ومن بعضهم الآخر بعيداً عصياً على القرب والاكتشاف.

كيف نجا سليمان العيسى من آثار الواقع المريض الذي أخذ يعصف بعدد ليس بالقليل من شباب الشعراء وكهولهم ويدفع بهم إلى خوض معارك لا تمت بصلة إلى الإبداع ويتم فيها - للأسف - استخدام لغة على درجة عالية من الإسفاف؟! سؤال طويل لا يجيب عنه إلا قراءة صفحات من حياة هذا الشاعر الكبير للتعرف على مدى مقاومته لكل ما يتناقض مع مبادئه وإنسانيته.

لم تجر الأمور في حياة شاعرنا ولا في حياة أمته كما كان يريد ويحلم، وفي مناخ مفعم بالحزن والإحباط الذين صاحبا واقع الانكسار القومي في أعقاب هزيمة 1967م، وجد الشاعر نفسه مسؤولاً عن رد الاعتبار للحقيقة، حقيقة الأمة التي غابت في متاهات الانحراف السياسي وما رافقه من تسلط فردي وحزبي، ومن خلافات صنعتها الأهواء وقادت فيما بعد إلى أعمال القمع والقمع المضاد. كما وجد نفسه في حوار لم يتوقف مع طفولته وأطفال الأمة بعد أربعين عاماً من تجربة الكتابة للكبار، في هذه الانعطافة كان يستنجد بعالم الطفولة البريء الجميل الخالي من تعقيدات الكبار وعقدهم أو أنه كان ينظر إلى المستقبل من خلالهم، وأراد أن يقول للجميع: لا تيأسوا إذا كنا قد فشلنا في معركة أو في مجموعة معارك فإن الأجيال القادمة سوف تصحح الفشل. وإذا كان الوطن العربي - والكلام هنا له - يستقبل كل عام عدداً من المواليد يفوقون في تعدادهم سكان الكيان الإسرائيلي فما الذي يخيفنا أو ينشر ظلال الإحباط على واقعنا. ويجوز القول إنه بفضل انحياز سليمان إلى عالم الطفولة جعله يحتفظ بتفاؤله الواقعي وفي الوقت ذاته بتصلبه الفكري القائم على التسامح ومحبة الآخر الذي يبادلنا الإحساس نفسه والشعور ذاته. ويلاحظ أنه دائماً لا يمدح الأيام الماضية الجميلة وحسب، وإنما يمدح الأيام الجميلة المقبلة أيضاً ويرى في الثرثرات والمهاترات ضرباً من المعارك الجانبية التي تقود أصحابها إلى خلافات يضيع معها المعنى الجميل الذي يجعل صاحبه على الدوام متمسكاً بحلمه الكبير.

وبالمناسبة فإن سليمان العيسى يعد من أبرز الشعراء المعاصرين الذين كسروا قصيدة العمود الكلاسيكي الجديد بالمزاوجة بينها وقصيدة التفعيلة، فضلاً عن توقه للجديد وحنينه إلى كل ما يرتبط بالمستقبل سواء على الصعيد الإبداعي والفني أو على الصعيد الاجتماعي والمعرفي وقد أهلته لذلك معايشته لأبرز شعراء التجديد في القصيدة العربية أيام دراسته الجامعية ببغداد منتصف الأربعينيات وصداقته الشخصية للسياب وآخرين من رموز التحديث الشعري. وكما انصبت موهبته كلها في الكتابة الشعرية فقد انصبت كذلك في الكتابة للأطفال والترجمة لهم من روائع الأدب العالمي وظل يعطي هذا الجانب أولوية حتى ظن بعضهم أنه أقلع عن كتابة الشعر للكبار بعد أن اقترن اسمه بقوة بشعر الأطفال.

ومن المؤكد أن مناقب الرجال عبر العصور - لا تكتمل إلا بدفاعهم عن الحرية والتزامهم شرف الكلمة، وأشهد أن سليمان العيسى كان في هذا المضمار الشاهد والشهيد، وبسبب ذلك عانى وابتعد وتعذب، ولقي من تجاهل القريب أكثر مما لقي من تجاهل البعيد، لكنه ظل شامخاً قوياً متماسكاً ومحصناً بزهده الصارم وحلمه الأخضر الكبير.

أخيراً، هل نجحت نوعاً ما في رسم صورة بالكلمات تقترب من سليمان العيسى الرجل الهادئ الوقور الذي يبدو ساكناً من الخارج وفي قلبه مرجل دائم الاحتراق، وفي هذا الصدد ربما بدا في الصورة شاعراً مرهف الإحساس رقيق العاطفة، وهو كذلك حقاً لكنه في المواقف الحاسمة إنسان آخر قاطع كالسيف حاد كالحقيقة.

- اليمن


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة