Culture Magazine Monday  10/09/2007 G Issue 215
عدد خاص
الأثنين 28 ,شعبان 1428   العدد  215
 

سليمان العيسى .. الشاعر
د. خالد عبد اللطيف الشايجي

 

 

لقد قال أحد مفكري الغرب: الشاعر يولد شاعراً، أما الكاتب فيُصنع.

ولم أكن أعرف مدى صحة انطباق هذه المقولة على الواقع حتى رأيتها في الشاعر العربي الذي يقول الشعر حتى وهو لم يعرف بعد الأوزان وبحور الشعر.

ولم يعد النقد - عند الكثيرين من نقادنا - من أجل استجلاء الحقيقة ومعرفةِ حقيقةِ معدن الشاعر وإظهار المفاهيم الحقيقية ومدى البعد أو القرب من جمال بلاغة اللغة العربية وقواعد النحو والصرف وغير ذلك من الأصول الواجبة في هذا المجال بل لم نعد نقرأ للناقد من هؤلاء لأي نص، أي ملاحظة عن ذلك وخاصة فيما يتعلق بأصول وقواعد النحو والصرف، وإنما أصبح معظم الاهتمام منصبا على شخصية وسلوكيات الشاعر أو الأديب التي دائماً ما يربطها الناقد في إبداعات هذا وذاك لا على فنه وإبداعه.

لقد نسي الناقد تماما أنه نتاج هذا الكاتب أو ذاك الشاعر، وأن عليه واجب الاهتمام بالإبداعات والمواهب وإعطاء كل جيل حقه من الاهتمام والاحترام وألا يقلل من أهمية لغة أديب أو شاعر لأنه لم يكن من جيله أو على طريقته في اللغة.

لقد أصاب الشاعر سليمان العيسى الكثير من النقد الذي هو في غير محله على الرغم من الدراسات الكثيرة، جامعية وكتب ومقالات لكبار المختصين في أدب الطفل أكدَت أن تجربة سليمان العيسى خاصة في أدب الطفل كانت رائدة ومثار اهتمام كبير وكانت الفترة التي جاءت فيها كأحوج ما تكون إلى هذا النوع من الأدب. ويحضرني قول أستاذة أردنية فاضلة متخصصة في أدب الأطفال - لا أذكر اسمها - كانت في زيارة للكويت في أوائل التسعينيات من القرن الماضي أجرت إذاعة الكويت لقاء معها حول ذلك قالت فيه عن عطاء الميدان الثقافي العربي الموجه للطفل في تلك الحقبة: (من إحصائية عالمية عن أدب الأطفال وجدنا أن ما يكتب للطفل من كتب في أوروبا يساوي ثمانية كتب سنويا، بينما لا يكتب للطفل في الوطن العربي غير ما يعادل سطرين في السنة فقط). وإذا كان ذلك صحيحا فأنا أعتقد بأنه لا بد أن يكون هذان السطران هما من صنع سليمان العيسى.

وعلى الرغم من ذلك فلابد من ناقد هادف لتستقيم النصوص ويُكشف عن الصالح فيها فيبقى ويُستحسن، والطالح فيها فيبين ويظهر وليس هناك كمال إنساني على الإطلاق وشاعرنا سليمان العيسى ضمن هذا وذاك، إلا أننا في مثل حالته علينا أخذ الوضع الراهن في الاعتبار ونشجع أمثاله وندفعهم إلى المزيد من الإبداع فلديه التجربة ولديه الإلهام ولديه التعبير والإيقاع وأكثر من ذلك لديه اللغة ببلاغتها وقواعدها ولديه القدرة الشاعرية الأصيلة في توظيفها في التعبير الشعري المعبر وفوق كل ذلك الحاجة الماسة لهذا النوع من الكتابة والشعر لافتقار الزمن الحالي له.

إن سليمان العيسى يمثل مجموعة صفات مهمة جدا للوطنية الصادقة إن جاز لنا التعبير، فهو قومي وعروبي مخلص، وهو مناضل صادق وله في ذلك آمال متجددة، ثم هو ثابت في مواقفه لا يحيد ولا يتبدل عن رسالته ولا تجذبه المغريات عن هدفه وهو داعية غيور على الوطنية ووحدتها، وكانت أشعاره تنضح بهذه المواقف القومية الصارخة التي لا تجامل أيا كان على حساب المواقف القومية ومع كل ما ذكرنا هناك إضافة مهمة وهي أنه رجل متواضع دمث الخلق يُعَدُّ ظاهرة متفردة جديرة بالاهتمام وجديرة بالتحليل ودراسة الموهبة التي أودعها الله هذا الإنسان، ويقول عنه الأستاذ رياض نعسان آغا: (هل يمكن لإنسان أن يحتفظ بعذوبة الطفولة وبراءتها حتى الثمانين من عمره؟.. إنه سليمان العيسى ولا تزال روحه وثابة من غيمة إلى غيمة لتلم القصيدة التي ذرتها الرياح وراء السحاب).

حتى نكبة يونيو عام 1967 التي هزت وجدان كل العرب وهدّت كثيرا من الأفكار الحالمة بكيان عربي جديد كان يبدو من إرهاصات تلك الفترة أن بناءه أوشك على الشروع، لقد اختنق سليمان العيسى وكل مثقف عربي عموما، وغص بهذه الخيبة الكبيرة التي أمضى شطر حياته بل كل حياته يحلم ويطمح إلى الوحدة العربية والوطن العربي الكبير - كما يعبر هو عن ذلك - وبعد ذلك اليوم فقد الأمل في الكبار على ما يبدو فاتجه إلى الصغار وبدأ يدق باب الأمل من جديد لعله أن يُكوّن قاعدةً صلبة من الوطنية الصادقة المخلصة لدى هذه البراعم التي لم تفسدها بعد تطلعات الحياة المادية غير الملتزمة واللامنتمية، فجاء توجهه ذلك في الصميم حيث كانت المكتبة العربية فقيرةً إلى أبعد الحدود من أدب الطفل وكان الشعراء والكتاب قليل منهم من يهتم بهذا الجانب الثقافي المهم.

وكان ما كان من هذا التوجه أنه أخذ يبث آماله وطموحاته القومية في روع البراعم العربية الصغيرة من خلال أشعاره ونثره وكله أمل وإصرار حيث يقول:

سيكملها غيري وغيرك حسبُنا

بأنّا بدأنا والطريقُ يبابُ

لقد كان راسخ الوثوق بالمستقبل العربي على الرغم من كل السيئات والمساوئ التي يمر بها في كل سبل حياته ويقول:

قادمٌ في عباءتي أخزن الشم

س وقبري عصاي والقدمان ِ

قادمٌ من مقابر الضوء شعبا

عربياً يعيد رسم الزمان ِ

على الرغم من أن هذا الزمن الذي نعيشه اليوم يأتينا بين يوم وآخر بمثبطات العزائم ومرار الهزائم في كل الأصعدة تقريبا، إلا أننا لا نعدم أصواتاً هنا وهناك تنفخ روح الأمل بين الفينة والأخرى فتعيد إلينا روح التأمل والأمل والانتظار، ومن هذه الأصوات صوت الشاعر الكبير سليمان العيسى:

أمة الفتح لن تموت وإني

أتحداك باسمها يا فناء

نعم.. إنه إيمان رجل صادق بأمته التي يعرفها حق المعرفة وهذه المعرفة التي قرأها فيها هي التي تنفخ فيه هذه الروح المتجددة الداعية إلى الصمود والعمل من أجل الكفاح.

هذه الأمة التي صنعت معظم الحضارات الإنسانية منذ سبعة آلاف سنه حسبما ينطق به التاريخ الحديث وأرضها هي مهد الإنسانية الأولى ولغتها هي أصل لغات الناس أجمعين، فقبل أن يكون هناك أوروبا وأمريكا ويونان كانت هذه الأمة التي أخذ عنها اليونان وغيرهم أصول العلم والحضارة واللغة.

ومن يعرف هذه الحقائق لا بد أن يكون مفتخرا وغير يائس بأن تنهض من جديد، فالجاهل الذي يجهل تاريخ أمته هذا، هو الذي ييأس ويستنكف من أمته بسبب هذه الأوضاع المزرية والمتردية التي وصلنا إليها التي نحن أسباب الكثير منها.

سمراءُ صحرائي ونسري أسمرُ

ورسالتي ورقُ الخلود الأخضرُ

لا أمسح الجرحَ الشَّموخَ بجبهتي

دعْه بمعركة الرسالة يقطرُ

هذا الفخر بالأرض والسماء، والفخر بتلقي الجراح والصبر عليها هو من شيم المقاتلين الصابرين المؤمنين بحقوقهم وأمتهم، لايمكن أن تجده لدى طلاب المادة والتسلط، ولا يمكن أن تجده لدى اللاهثين خلف أغراضهم الشخصية ومصالحهم الدنيوية أبدا، بل إن مثل هؤلاء الصامدين هم عملة نادرة حقا يندر أن تجدهم في أوقات مثل هذه الأوقات التي يتبرأ فيها الكثير منا من عروبته ضعفا ويأسا وجهلا أيضا.

عندما نتحدث عن سليمان العيسى وأمثاله إنما ندعو إلى الثبات وندعو إلى المزيد من الثقافة والمعرفة وخاصة تلك التي تعرفنا بحقيقة أمرنا وحقيقة تراثنا الذي ملأ العالم علما ومعرفة ونحن غافلون عنه، بل إن البعض منا يشتمه ويدعي جهلا أنه لا يريد أن ينظر إلى الخلف وبذلك أضاع هويته عندما أضاع لغته، وأضاع ثقته وشخصيته عندما جَهلَ أمر أمته.

وبعد هل نعتبر من مثل هذه الشخصيات وهذه المواقف؟.. رجل أفنى حياته يدعو هذه الأمة إلى النهوض وسنذهب ويذهب سليمان العيس وتبقى شواهد الدعاة باقية خالدةً بعدهم تستنهض الهمم وتدعوا إلى التضحية فما من حرية تقدم على طبق من الذهب، وما من أوطان تتحرر إلا بسواعد أبنائها المخلصين.

وأختم مقالتي هذه بهذه الأبيات لشاعرنا سليمان العيسى:

حمل الصباحَ على يديه وجاءني

يوماً يشاطرني هموم صباحي

لم تنطفئ صحراؤنا.. همست يدي

هذي بقايا الشمس تعصر راحي

أُكتب معي لغةَ الرمال فإنها

لغةَُ الخلود.. ولفني بجراحي

* الكويت


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة