Culture Magazine Monday  12/11/2007 G Issue 222
فضاءات
الأثنين 2 ,ذو القعدة 1428   العدد  222
 

المنهج الأسطوري في النقد العربي الحديث «1»
د. لمياء باعشن

 

 

يأخذ هذا البحث على عاتقه مهمة الكشف عن ملامح النقد الأسطوري وذلك بتقصي جذوره التأسيسية، وبرصد خطوات إخراجه إلى حيز الوجود، وبتتبع تطوره ومن ثم دخوله حيز التحول بعد إدراجه ضمن السياقات الثقافية العربية. وهذه المهمة الاستكشافية تسفر شيئاً فشيئا عن وعورة الدروب وصعوبة شقها وذلك لأن النقد الأسطوري له طبيعة زئبقية محيرة: فما تكاد تتلمسه حتى يختفي، وتارة يظهر في مقدمة المناهج النقدية الحديثة وكأنه بداية ساطعة للنقد الحديث، وتارة تطمس ملامحه علوم إنسانية وأجناس أدبية وتيارات نقدية محددة، حتى يصبح النقد الأسطوري في حد ذاته أسطورياً.

وأولى العقبات التي تواجهنا هي عقبة المصطلح الذي يكتنفه شئ من الغموض وذلك، في رأيي، لارتباطه اسمياً بالنص الأسطوري الذي هو بالمكان الأول ظاهرة أدبية: الأسطورة هي منبع الأدب، وهي منهج النقد الذي يتعامل مع الأدب، كما أن الأدب هو طريقة في التعامل مع الأسطورة. هذه خاصية نوعية/ منهجية لا تتكرر مع أي نوع آخر من النصوص الأدبية وليس هنالك منهجاً نقدياً آخر يصفه نوع أدبي، فالنقد الأسطوري لا يقابله نقد روائي ولا نقد شعري ولا نقد ملحمي، لدينا فقط نقد أسطوري يعرف في الغرب تبادلاً بالنقد الميثولوجي Myth Criticism أو نقد الأنماط الأولى Archetypal Criticism. ويعود الاسم الأول إلى الإغريقية القديمة والثاني إلى نهايات القرن التاسع عشر. وهذا الفارق الزمني في التسمية يفسره انتماء النص السردي إلى زمن غابر، والمنهج النقدي إلى زمن حديث. لذا يتحتم على الناقد الأسطوري العودة إلى المنابع البكر للتجربة الإنسانية لكي يلم إلماماً كاملاً بالمادة التراثية التي صيغت في عصور سابقة.

من أسئلة الوعي الكبرى نشأت الأسطورة فكانت نمطاً استيعابياً يتضمن رؤية كونية عميقة صاغتها ملكة الخيال البشري منذ فجر التاريخ لترسم خطة مستقبلية لتطور الفكر الإنساني. والنقد الأسطوري هو أيضاً نقطة انطلاق النقد الأدبي الحديث، فما كان اهتمام النقاد من قبله بغير التقاليد النظمية والجمالية والأخلاقية للنصوص. ولكن ما أن كشف فرويد Sigmund Freud عن وجود عقل باطن يحمل الذكريات والرغبات في غياهب سحيقة ويملي على الإنسان تصرفاته وسلوكياته بشكل غير إرادي، حتى أزاح يونج C. Gustav Jung من بعده الحاجز الوهمي بين هذا العقل الباطن الذاتي وعقل آخر، أكثر عمقاً، يحمل ذكريات ورغبات كل البشر منذ بدء الخليقة سماه اللاوعي الجمعي Collective Unconscious. فالأدب عند فرويد هو تعبير عن حلم يقظة يفرزه اللاوعي الفردي معبراً عن الهواجس الذاتية، بينما الأدب عند يونج هو أداة تعبير عن حلم يقظة يفرزه المخزون الجمعي الكامن في أعماق النفس.

1. وبعيداً عن علم النفس التحليلي يرى كارل غوستاف يونغ أن البنية العميقة للنفس الإنسانية تشكل في اللاوعي الجمعي الأعمق بؤرة أنساق كونية واحدة تعمل كطاقة محركة منذ العصور السحيقة للبشرية وحتى اليوم. هيمنت الأنماط الأولية على مبادئ النقد الأسطوري هيمنتها على تصرفات البشر وواقعهم الوجداني وأثرت النظرية بمصطلحات متعددة من مثل الظل والقناع، السوما والاسكيا، الانيما والانيموس، والبارادغما والفارماكوس..

وهكذا تمت ولادة النقد الأسطوري على أيدي علماء النفس وأطباء التحليل النفسي، ليتولى دعمه ورعايته فيما بعد علماء الأنثروبولجيا الذين جذبتهم فكرة الصور البدائية وترسبات التجارب المتكررة في حياة أوائل البشر في اللاوعي الجمعي، فظهرت على الساحة الأدبية دراستان فرضتا على النقد الأدبي أول تأثير انثروبولوجي عميق وأداة لدراسة الكلاسيكيات، وهما الثقافة البدائية Primitive Culture ل إي بي تايلور E. B. Tylor 1871، والغصن الذهبي The Golden Bough ل جيمس فرايزر James Fraser 1890، وراجت بعدهما فكرة ديناميكية وتطويرية الأسطورة من طقوس بدائية إلى ميثولوجيا حضارية: فالميثة تنمو في الدين والأدب والفن بعد أن تموت في الطقوس التي كانت علة وجودها.

وعلى الرغم من قيام الأسطورة على الخيال الجامح والأوهام غير العقلانية والبعيدة عن الأسس المنطقية، إلا أن علماء الاجتماع وجدوا فيها بنية معرفية عميقة تتعلق بمعتقدات الشعوب وروحانياتها وأعرافها وتقاليدها، وأهتم بها المؤرخون كوثيقة تحمل تاريخ البشرية الأولى وعصر الأبطال مع بعض الخيال وأقروا بأن هنالك صلة لا يمكن بترها بين الأسطورة والحقائق التاريخية التي تمتزج بها. وبما أن الأسطورة قد استوعبت قلق الإنسان الوجودي وتوقه الدائم إلى كشف الغوامض، فقد رأى الفلاسفة وأهل الفكر أنها تحتوي على أجوبة رمزية أثارها فضول الإنسان عن المسببات الكبرى.

استفاد النقد الأسطوري كثيراً من مفكر ين ساهما بقوة في إرساء قواعد النقد الأسطوري هما باشلار Gaston Bachelard وفراي Northrop Frye ، فالأول أكد فكرة إنبجاس الأدب من حلم اليقظة، وإن سماه رؤيا) بدلاً من حلم)، ثم استبدل الأنماط الأولية بالعناصر الأولية: التراب والماء والنار والهواء كنقطة انطلاق أحلام البشر.

2 - والثاني وسّع من حدود النظرية الأسطورية في النقد، فليس هناك أنماط أولية فقط وإنما هناك ميثات أدبية نشأت من الطقوس الموغلة في القدم والتي لم تتغير، بل إن الأدب برمته ليس سوى تنويعات على النواة الأصلية تتجلى في بناه الجديدة، تنويعات تظل في مثابة الأصباغ لا الأوضاع. أما مهمة الناقد الأدبي فهي اكتشاف هذه النواة وتحديد مدى الانزياح والتعديل والانقطاع والتغيير الذي طرأ عليها. ثم شرّح فراي عملية النقد واختار الطقوس الفصلية في تصنيفه الأدب إلى أربعة أنواع: الكوميدي والتراجيدي والرومانسي والساخر لتتوافق مع أربعة ميثولوجيات هي الربيع والصيف والخريف والشتاء.

3 . وانتقلت الأسطورة بعد ذلك إلى مجال وسط بين الأنثروبولوجيا والبنيوية على يد ليفي ستراوس Claude Levi-Strauss، ولربما كان مرد ذلك إلى الإتجاهات الجديدة التي ابتدعها فلاديمير بروب Vladimir Propp في عمله الريادي الهام مورفولوجية الحكاية الشعبية 1929 كما يتضح من المساجلة الشهيرة بين بروب وليفي ستراوس في41964. يقدم الشكلاني بروب نظام تصنيف متكامل لـ 31 وظيفة تحدد أصول الحكايات الشعبية وتطورها، بينما يرى ستراوس أن الأسطورة لا تدرس باعتبارها نصاً منفصلاً عن باقي الأساطير، بل باعتبارها جزء مكون لكلٍ شامل، ثم يقوم بتقطيع الأسطورة إلى مكونات موضوعية mytheme ويرتبها في شبكة ذات بعدين ليستخرج التقابلات الثنائية. وكان النقاش بينهما بداية للخلط بين أجناس الأدب الشعبي: إذ أن ستراوس لا يجد سبباً لعزل الحكايات الخرافية عن الأساطير ويؤكد أن: العلاقة بينهما ليست علاقة سابق بلاحق أو أصلي بمشتق، ولكنها، على الأصح، علاقة تكامل أو إتمام). فلاديميير بروب: موفولوجيا الحكاية الخرافية، ترجمة وتقديم: باقادر نصر، النادي الأدبي الثقافي، جدة،1989، ص 311). وقد ظهرت بعد ذلك اهتمامات من نقاد الأسطورة بتحليل الحكايات الشعبية والخيالية والعجائبية وكأنها أساطير، كما صنفت الأسطورة في أغلب الأحيان على أنها مادة فلكلورية.

أما الرومانسيون الذين انهمكوا في تطبيق نظرياتهم الرمزية على الأسطورة فقد جذبهم الظلام والبحث عن المجهول، والغوص فيما وراء المرئيات بقدر ما جذبتهم الثورة الروحية التي تعبر عنها مؤامرة برميثيوس لسرقة النار وتمثيلها الضمير الواعي في تحقيق الأهداف الذاتية. ويتفق رواد المدرسة الرومانسية على أن الخيال شئ سحري يقع خارج الملكات الواعية كما تفسر مقولة بليك William Blake المأثورة : ?إن للقلب عقلانية لا يدركها العقل?. ومن هذا المنطلق يستخلص كاسيريرErnest Cassirer أن الصورة في الأسطورة لا تصور شيئاً لكنها هي بحد ذاتها شئ، فالرمز والمعنى يشكلان وحدة مباشرة

نظريات الأسطورة، د. نزار سود العيون، عالم الفكر: المجلد 24، 1995، ص 217)، كما أنه لا يرى فرقاً بين الأسطورة واللغة فالإثنان نسل واحد من نفس الأبوين ويحركهما دافع موحد هو التشكيل الرمزي)5 أما فروم Erich Fromm فيستخلص أن الأسطورة رمز جامع يتناظر مع اللغة تناظر العلامة والمدلول، تناظر المعنى والمعنى، بحيث تصبح الأسطورة بنية لغوية شديدة الشفافية والعلاقة فيها بين الرمز والمرموز إليه ليست علاقة إتفاقية بل علاقة جوّانية بنائية إيريك فروم، اللغة المنسية، ترجمة حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1995، ص.21).

ثم يجد بارتRoland Barthes في الأسطورة أرضاً خصبة لعلم الرموز والعلامات Semiotics الذي يكشف عن منظومة خفية من الوحدات والقواعد التي تشكل مكونات الحضارة الجماعية. ويقوم هذا المدخل إلى التحليل البنيوي للمحكيات بإضفاء البعد الأسطوري على الواقع اليومي إذ يجد أن الأسطورة لغة مفعمة بالمعاني العميقة تتحدثها تفاهات الحياة اليومية.

...............................................يتبع

-جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة