Culture Magazine Monday  12/11/2007 G Issue 222
فضاءات
الأثنين 2 ,ذو القعدة 1428   العدد  222
 
الفرار إلى أعتاب الحارة
أمل زاهد

 

 

اعترضت الممثلة السورية نبيلة النابلسي في حوار تلفزيوني على الصورة التي قدمت بها المرأة الشامية في مسلسل باب الحارة، قائلة إن المسلسل قدم صورة غير واقعية للمرأة السورية في أوائل القرن العشرين وزيف الحقائق الاجتماعية، فقد شاركت المرأة في المظاهرات عام 1917 في دمشق ولم تكن امرأة خانعة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، تدير خدها الأيسر لزوجها عندما يلطمها على خدها الأيمن، لتستقبل المزيد من صفعاته بنفس راضية!! وأن المرأة الشامية كانت تتميز بشخصية قوية معتدة، وأنها كانت ملكة متوجة في بيتها ولرأيها قيمته ووزنه في محيط عائلتها على عكس ما صورها المسلسل، وأن وجود بعض النماذج الخانعة للمرأة في ذلك العصر لا يعني تعميم تلك الصورة السلبية عن المرأة.

اعترض أيضاً بعض المثقفين السوريين على تنميط صورة الحارة الشامية القديمة بشكل بدا لهم مسطحاً وساذجاً، بينما هُمش الجانب الثقافي والفكري في الحارة وأغفل ذكر التعليم والمدارس التي كان يحفل بها الشام إبان ذلك الوقت. لتختزل صورة الحارة الشامية وقيمها فقط في المروءة والشهامة ونصرة الضعيف وضجيج غوغائي من جهة، أو في ثرثرة النسوة ونميمتهن وإعجابهن بالرمز الذكوري المفتول العضلات القادر على شكم أشد الشخصيات النسائية قوة برفعة من حاجبيه من جهة أخرى!

ولكن المسلسل ضرب عرض الحائط باعتراضات المثقفين التي لا تخلو من منطقية وصحة، وحصد نجاحاً جماهيرياً منقطع النظير، ولم يتوقف هذا النجاح على بلد عربي دون آخر، أو على شريحة اجتماعية أو عمرية دون أخرى ولم تقتصر مشاهدته على مستوى ثقافي معين.. بل تسابق كثير من المثقفين لمشاهدته قبل غيرهم حتى شكل ظاهرة تعيد إلى الأذهان أمجاد ليالي الحلمية! فقد امتد نجاح المسلسل عابراً الحدود ومخترقاً لجدران عزلة سوريا، وموحداً بين الجماهير العربية في كافة الأقطار.. صغيرها وكبيرها، ونساؤها ورجالها. داحضاً زعم من يتهم كبار السن بالحنين إلى الماضي وعدم القدرة على الخروج من أفلاكه! فقد ردد العالم العربي بأطفاله وشبابه المفردات والتعبيرات التي كان يستخدمها أبطال المسلسل وألفت الجماهير العربية اللهجة الشامية القديمة وأحبتها، ولم يعد مستغرباً أن ينادي الرجل زوجته في قلب الجزيرة العربية فترد عليه: نعم يا ابن عمي ونظراتها تقطر خنوعاً واستكانة! ولا تستغرب حين ترى نظرات شباب (الجينز والتسريحات العجائبية) وقد التفت لتحتضن شخصية ( أبو شهاب) زعيم الحارة وحامي حماها المتربع على عرش القوة والشهامة، ولا تتعجب أيضاً لو سمعت أن كثيراً من مواليد هذا العام في العالم العربي سيطلق عليهم اسم عصام أو معتز تيمناً بعنترية وقوة أشهر شباب المسلسل!

وفي تقديري أن نجاح المسلسل لا يعود فقط إلى الحنين لأصالة الماضي والرغبة في تمثل مفردات وقيم جميلة تبخرت ولم يعد لها وجود في عصرنا، وهو أيضاً ليس فقط رغبة في البحث عن الهوية الضائعة بين تلافيف التغريب وانهيار الحدود الثقافية والانفتاح الفضائي المبتذل، ولا يعود فقط إلى الإخراج البارع والتشخيص الماهر والمهارة في تقمص العصر وتجسيد الشخصيات من الممثلين. ولكنه يعود إلى كل تلك الأسباب مجتمعة وهو أيضاً تعبير قوي عن سأم الناس ومللهم من الحياة العصرية وتعقيداتها، تلك التعقيدات القادرة على اغتيال الفرح ووأده بكمالياتها الباذخة التي تتوالد وتتكاثر يوماً إثر يوم لتضحي ضروريات لا يمكن الاستغناء عنها، فيتحول الإنسان إلى ترس يدور ويشقى ليتحصل على منتجات يفترض أنها وسيلة لراحته وسعادته، بينما هي تستنزفه وتنتهك آدميته! ولعلها رغبة في العودة إلى البساطة وإلى اقتناص الدهشة من براثن حياة عصرية فقدت القدرة على استيلادها.. دهشة كان لوابور دون صوت قدرة على زفها إلى ربة البيت وهي تتعب وتجاهد وتلملم حبات عرقها لتطبخ لأسرتها طعامهم! إنه فرار إلى بساطة الحارة وبدائيتها، وهرب إلى أحضانها الحجرية الدافئة من ضجيج الغابة العصرية ووحشيتها الإسمنتية.. فرار إلى حياة لم تكن تفتقر إلى العزة والكرامة رغم بساطتها وبدائيتها، في عصر الانحطاط العربي والانبطاح الذليل.

وقد يبدو إعجاب الرجل الشرقي القادم من أعماق ثقافة تمتد ذكوريتها إلى العصب والنخاع بشخصيات المسلسل المفتولة العضلات بشواربها المعقوفة وورمها الذكوري منطقياً، ويعبر عن رغبة قوية في استبقاء الصولجان الذكوري على الجباه لأكبر وقت ممكن، خاصة ومعطيات هذا العصر تقترح سحب البساط من تحت أقدام العنجهية الذكورية بخروج المرأة العربية إلى ميادين العمل وإلى أمان الاستقلال الاقتصادي. كما لا يستدعي الإعجاب بالمجتمع الأبوي الذي يصوره المسلسل استغراباً في المجتمعات السلطوية، وفي ثقافة لم تستطع بعد استيعاب مفردات الدولة الحديثة ولم تتمكن من الخروج من مأزق القبلية ولا تستطيع تقبل الفردية!

ولكن ما أجده مستغرباً حقاً هو إعجاب المرأة العربية بالخنوع الأنثوي والاستكانة للقوة الذكورية الغاشمة ولقيم الرجولة التي يقدمها المسلسل! وهي التي لا تزال ترسف تحت أغلال العسف الذكوري وتعاني الأمرين جراء انتهاك حقوقها واختلاط العرف بالدين، والاستقواء بالعادة والعرف ليتم وأد الحقوق الممنوحة لها من الشريعة السمحة! المزعج حقاً في دراما كهذه أنها تمجد النموذج الأنثوي الخانع والمطيع وتفتل الشوارب الذكورية المتضخمة الأنا، وتهدم في لحظات جسوراً نحتتها المرأة العربية في الصخر لتنال بعضاً من حقوق جاهدت ولا تزال تجاهد للحصول عليها، لتعيد المرأة ارتجاعياً لعصر سعاد خانم وصويحباتها!

- المدينة المنورة Amal_zahid@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة