Culture Magazine Monday  13/08/2007 G Issue 211
فضاءات
الأثنين 30 ,رجب 1428   العدد  211
 
(النقد الذاتي بعد الهزيمة)
قراءة معاصرة ..... «4»
غازي أبو عقل

 

 

نظرية شردنا بعرضنا:

استعان مؤلف النقد الذاتي بدراسة صدرت في 1968 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية حول النازحين وأسباب نزوحهم، عالجت تأثير القيم القبلية على سلوك الإنسان العربي في مواجهة الحرب والخطر، جاء فيها: (لقد كان للارتباطات العشائرية والقبلية والعائلية المذكورة وقيمها التي لا تزال تسيطر على عقلية العربي وتتحكم بأنماط سلوكه، تأثيراتها السلبية الخطيرة أثناء الحرب وبعدها على نفسية الإنسان العربي العادي وعلى نزوحه من الأراضي المحتلة وعلى ردود فعله المشتَّتة في وجه الغزو الصهيوني.. إن عدداً كبيراً من النازحين تركوا أرضهم خوفاً على بناتهم ونسائهم وأطفالهم وشبابهم وليس خوفاً على أنفسهم.

الواقع أن مفهوم العرض عند العرب لعب دوراً هاماً في عملية النزوح.

ويقول نازح قابلناه في مخيم زيزياء معبراً عن هذا الدور بالشكل التالي: شردنا بعرضنا.. إننا نقرّ واقعاً مؤسفاً فقط يتلخص في أن مستوى النضج الاجتماعي والوطني عند الإنسان العربي، حتى في البلدان العربية الأكثر تقدماً، لم يبلغ بعد الحد الذي يجعله يتخطى مستوى الولاءات العائلية والعشائرية وقيمها التقليدية، والذي يجعله يدرك أن الحروب كثيراً ما تؤدي إلى الاحتلال والاعتداء على الأعراض ووجود الجيوش الدخيلة على أرض الوطن، بدون أن ينتج عن ذلك بالضرورة شرود المواطنين بأعراضهم ونزوحهم وتركهم الأرض خالية من السكان تماماً كما يريدها العدو) - النقد الذاتي ص 34 وما بعدها.

غرابة هذا المنطق واضحة، وبعده عن الواقع أكثر بكثير من بعد مقاهي بيروت (في حزيران الذي أصبح بعيداً) عن المدن والقرى التي اجتاحها الغزاة الذين زرعهم (الآخر) في أرضنا لتنويرنا وتطويرنا وإنقاذنا من تخلفنا.

(الآخر هي الكلمة التي أحلها مثقفونا المعاصرون في محل كلمة المستعمر وهي لم تكن معروفة في حزيران المعروف).

ونستميح أصحاب نظرية شردنا بعرضنا عذراً لتوجيه سؤال بسيط إليهم: ألم يشاهدوا - ولو عَرَضاً - أي فيلم تسجيلي عن الحروب التي دارت على كوكبنا في القرن العشرين حصراً؟ ألم يقرؤوا أي كتاب أو مجلة مصورة عن حروب هذا القرن؟ يبدو أنهم لم يفعلوا لأن (المهتمين بالبحوث التجريبية العلمية المعتمدة على مناهج بحوث الميدان والمسح الاجتماعي) - كما جاء في البحث الذي نقل عنه النقد الذاتي نظرية شردنا بعرضنا، لا ينبغي لهم النزول إلى سوية هذه (الوثائق الوهمية).

غير أن المتفرغ لصغائر الأمور مثلي شاهد مجموعة كبيرة من الأفلام التوثيقية عن مآسي حروب هذا القرن وهي تُعلِّم من لا يريد أن يتعلّم أن النزوح عن ميادين القتال والشرود بالعرض وبأشياء أخرى، ليس إرثاً تراثياً عربياً - حتى لا نقول إسلامياً - فلقد نزح الفرنسيون العلمانيون والتنويريون بالملايين عن مدنهم وقراهم قبل وصول جيوش النازيين إليها.

وكان رئيس وزرائهم من المبادرين؛ إذ حمل معه عشيقته في سيارته محاولاً عبور الحدود إلى إسبانيا ولكنه اعتقل على الطريق.

أليست عشيقته عرضه؟ ولا يعترض معترض بأنه ترك زوجته للألمان لأنه كان عازباً على ما سمعت.

(وإنصافاً للواقع حمل معه صندوق المصاريف السرية أيضاً بعد أن أعطى مبلغاً منه إلى صديقه الحميم الجنرال دوغول في بوردو قبل أن يصطحبه الجنرال سبيرز البريطاني اليهودي إلى لندن لقيادة المقاومة الفرنسية الحرة. نسيت أن أذكر أن اسم رئيس الوزراء هو: بول رينو).

لقد شرد البولونيون والسلوفاك والروس بأعراضهم على دروب أوروبا الشرقية.

وعبر الموسرون من غرب أوروبا وشرقها المحيط إلى الولايات المتحدة وكندا وأمريكا الجنوبية، ومعهم الموسرات من بنات عائلات أوروبا الثرية - والأقل ثراء - منذ أن لاحت نذُر الحرب، ومنهم الكاتب المتنور التقدمي أندريه مالرو، الذي شرد هو الآخر لا بعرضه - لأن عرضه كان معه في لندن التي شرد إليها من فرنسا مبكراً - بل على ثروة أهله أصحاب معامل النسيج في فرنسا.

كثيرات من سيدات المجتمع ونساء الطبقات الأخرى وممثلات المسرح والسينما والروائيات وغيرهن، ممن رباهن المجتمع المادي العلماني غير المتدين، شردن بأعراضهن قبل الحرب وأثناءها.

إلى أن جاء دور الألمان أبناء فلسفة كانط وهيغل وماركس، وعندما بدأ الروس باحتلال الرايش الثالث، تسبقهم كما سبقت غيرهم قصص الاغتصاب.

فكيف يفر الرجال والنساء من العقلانيين والعقلانيات والعلمانيين والعلمانيات ومن المنتمين والمنتميات إلى المؤسسات والأحزاب التي تشد الروابط الاجتماعية في أوروبا - هذه المؤسسات التي افتقدها عرب فلسطين وغيرهم منذ 1948 كما جاء في النقد الذاتي - كيف فرَّ هؤلاء جميعاً دون الانتباه إلى أن الشرود بالعرض من ساحات المعارك، وقف على العرب المتخلفين القابعين في ماضيهم الظلامي الذي بلغ طوله أربعة عشر قرناً أو تزيد قليلاً..!

أريد أن أذكّر أصحاب نظرية الشرود بالعرض وترك الأرض خالية من السكان كما يريدها العدو بتناسيهم بدهية بسيطة، وهي أن الجيوش المتحاربة في أوروبا أيام النازية لم تكن مهتمة بإفراغ الأرض من سكانها لأن أهدافها الاستراتيجية كانت مختلفة. ومع ذلك شرد السكان.

في حين كانت قوات المشروع الصهيوني المسلحة لا تهدف إلاَّ إلى إخلاء الأرض وإفراغها من سكانها لأن ذلك كان أول أهدافها الاستراتيجية.

فكيف يسمح المنظرون اللاواقعيون المتمَتْرسون في مقاهي بيروت وغيرها من العواصم، كيف سمحوا لأنفسهم بلوم الشعب على الشرود بعرضه؟ في حين تستسلم أكثرية المنظّرين الساحقة قبل أن تلوح بوادر الخطر في أي مكان.

ويسارع أفرادها ليشاركوا في مراكز البحوث العلمية الموضوعية حول المجتمع العربي، وفي اللجان التي ترتب شؤون هذا المجتمع تمهيداً لإدخاله إلى المستقبل المشرق الذي يعبر فيه عن رأيه بحرية تجعله يتخلص من براغيث تاريخه المتخلف.

من يهتم بالتفاصيل؟ يبدو كتاب النقد الذاتي بعد الهزيمة، لمن يقرؤه قراءة معاصرة، كأنه مرافعة (وكيل نيابة) ضد ملايين من المتهمين، أي هذا الحشد بين المحيط والخليج، الذي اقتصر دوره على القيام بمهمة شاهد الزور، نتيجة لوجوده في ميدان الهزيمة، كي لا يُقال الجريمة، رغم أنفه ربما.

ولكي يُقنع وكيلُ النيابة القضاة أو القراء المحتملين، بذل جهداً مشكوراً في حشد التفاصيل التي تسوّغ لائحة الاتهام التي أعدَّها.

لن أتوقف هنا عند تفاصيل مثل صيام رمضان ودوام الموظفين وبروتوكولات حكماء صهيون واحتكار الأغذية أيام الحرب وفكرة المؤامرة العالمية، وغيرها كثير، لضيق المجال أولاً، ولأن المؤلف وظّفها بطريقة تخلخل الادعاءات كلها.

بل سأتناول تفاصيل أخرى تلقي الضوء على منهج الكتاب الذي لا يدقق في نوعية الحطب الذي يريد إشعال النار فيه.

- اللاذقية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة