Culture Magazine Monday  13/08/2007 G Issue 211
نصوص
الأثنين 30 ,رجب 1428   العدد  211
 
قصة قصيرة
حورية البحر..
خديجة الحربي

 

 

أحببتها منذ صغري.. كنت أترك اللعب مع أقراني لألعب معها.. لقد كنت أجدها في كل الحكايات التي كنت تحكينها لي، وأحب أن تكون بطلة الحكاية بدلاً من سندريللا.. فتنني شعرها الطويل وجسدها المرسوم.. وحدي أنا التي أراها تلوح بذيلها لترحب بي.. هكذا أراها وأحبها.. وعندما تختفي عن ناظري، كنت أبحث عنها.. أصرخ بجنون في الأعماق باحثة عن حورية البحر.

ذات ليلة قررت الهرب.. حملت أمتعتي وذكرياتي وحبك المدفون في أعماقي.. رحلت إليها.. حملتني على شعرها الطويل.. ذبت بداخلها.. أرى بعينيها وأحب بقلبها الكبير.. لقد أصبحنا روحاً واحدة.. لم نترك بحراً إلا وخضنا ماءه.. اسألي الأمواج عنا لعبنا على ظهرها كثيراً وحملتنا إلى حيث نشير.. كنا سعداء جداً لا يكدر صفونا شيء.. حتى التقيناه.. سفينة عريقة تشق عنان البحر بكبرياء.. وهدير محركاتها يبعثر سكون البحر.. على متنها وقف شامخاً يتفحص كل ما حوله.. ومع أولى خيوط الصباح المنبثقة من قلب السماء.. سقطت عيناه على تلك الصخرة التي كنا نحب الجلوس عليها، نغتسل بأشعة الشمس المنعشة.. التقت عينانا.. أثقلت الدهشة محياه الجميل.. لفنا الصمت مرة أخرى.. لم أشعر إلا بحرارة دموعها تسقط على وجنتي.. احتضنت قلبها.. فضحها شوقها لحب قديم.. كان قلبي يخفق بشدة معها.. تأملتهما جيداً.. لقد ذابت كل الفروق بينهما.. همست..

- ربان البحر.. أطلت الابحار..

أجابتها عيناه الدافئتان..

- وها أنذا قد عدت..

- لقد أبحرت بعد رحيلك.. لكن لم أجد في البحار كلها سوى طيفك يتبعني.. لم أجد غيرك رباناً لبحري.. وكنت أخشى أن تجد في كل بحر حورية غيري.

ارتسمت على وجهه الكبير.. الحنون ابتسامة أذابت كل الشوق والحنين.. وأحاطتنا جميعاً بشعرها الطويل المظلم.. سكنت الأمواج ليتناغم المد والجزر في مسار واحد.. ولم يتبق على صفحة الماء سوى صورتنا المنعكسة.

أصدقك القول.. لقد تحركت مشاعري نحوها.. شعرت بذلك الاحساس الذي طالما حكيت لي عنه.. تلك المشاعر التي تزلزل الكيان وتجعلني أعيش كل تقلبات الطقس في لحظة واحدة.. تأملت ربان البحر.. هل كان يهمس لي أم لحورية البحر.. هل كان يعلم أني بداخلها واتحدث بلسانها.. شيء ما يمنعني من الحديث إليه.. أهو رهبة الموقف؟! مشاعر لم أحدد نوعها بعد.. كان الصمت يحتل جزءاً كبيراً من حديثنا.. كنت أشعر بثقلي.. أجدني محملة بأحاسيس تجعلني أغوص في الأعماق كثيراً.. تركتهما على السطح.. ترقص الأمواج لهما احتفالاً.. أعلم تماماً بأنني والحورية روح واحدة.. لكني لا أعلم إن كان شوقه وحنينه لي أم لحورية البحر..؟

افترقنا كما التقينا.. وعلى تلك الصخرة تركنا مشاعر بلا اتجاه. وحنين لم نروه بعمق.. وأحاسيس قيدناها بمتطلبات الحياة فلم نفصح عنها.. غلفناها بالوقار والسكينة والاحترام.. ثم هرب كل منا يعبث في تفاصيل حياته.. يبحث عما يشغله وينسيه ذلك الشوق.. ليقتصر حديثنا على بضع كلمات منمقة.. مغلفة لكيلا تفضح ما بداخلنا..

تمر الأيام ويعبر ذلك البحر ألف ربان وحورية.. الكل يسير حولنا بانسيابية.. بينما نبقى على تلك الصخرة كما التقينا.. يقف ربان البحر متأملاً حوريته.. يهمس لها بين الحين والآخر.. بينما تقف حورية البحر تستنطق صمته وتحاول أن تقرأ تلك الحروف التي ذابت على شفتيه.. وحينما تشعر بقلبها ينبض بجنون تلف الكون بشعرها الطويل لتحيل نهاره إلى ظلام دامس.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة