Al Jazirah NewsPaper Monday  15/01/2007 G Issue 182
مراجعات
الأثنين 26 ,ذو الحجة 1427   العدد  182
 

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي*

 

 

أشرعة الليل عزة فؤاد شاكر

130صفحة من القطع المتوسط

كما أن للبحر أشرعة يبحر عليها العابرون على صفحة الماء فإن لليل أشرعة يبحر عليها الحالمون والعالمون على حد سواء.. فالليل حلم ويقظة.. حلم يعكس حركة اليقظة وقد يتجاوزها إلى الأضغاث بفعل الكوابيس.. وعلم بعضه حب.. وبعضه صب.. وبعضه الثالث انتظار.. وترقب.. بعضه شرود عن الواقع والآخر تأمل يسرح بالخيال في تيه لا مقر له.. ولا مفر منه.

شاعرتنا عزة اختارت من الليل أشرعته كي تبحر بنا عبر أمواجه وسكونه.. عبر هدوئه وقلقه.. عبر خوفه وطيفه الذي لا ملامح له لأمة يستقر في أبعاده كل الصور والملامح..

حسنا جاء شراعها الأول حباً أبوياً يخترق ظلام النفس، وظلم النفس:

في أعماق حب دفين

لا يقدر

يسري ذلك الحب مع دمي

إلى قلبي الصغير

الذي ينبض بالحياة

أحبه ذلك الحب

في رعشته الربانية

الذي وهبني الله به..

وهو يبادلك نفس الحب ما دمت تحبينه.. الحب ثمرة ربانية جنيّة نطعمها معا.. ومن فاتته تلك الثمرة فإنه يطعم الجوع والجفوة حتى ولو كان غنيا..

تساؤل خفي أسائل

نفسي عنه..

أعانق وسادتي

بدموع عيني

وأشكو لها لوعة الفراق

إلى ما لا نهاية..

لكل أعمارنا نهاية يا عزة.. حتى ولو كان حبنا طوفانيا يجترف مشاعرنا بصلف.. كما تشتكين الفراق.. كلنا سنفارق ويشتكيه أولادنا وأحفادها.. سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا.. الحياة مرحلة.. محطة قطار نتوقف عندها طالت أم قصرت وذاك عزاؤنا.

فصبرا جميلاً.. ما نيل الخلود بمستطاع..

حبها تتملكه الرعشة.. إلى أي حد؟ وبأية صفة؟

رعشة حب سماوي

طاهر كنقاء الثلج

يتوغل مني في أقصى الأعماق

ترحل به مني الطيور

يعطر كل الأفياء..

جميل أن يتسع الحب.. أن يأتي كبيرا وليس ذاتيا نرجسياً وأمانيها بمساحة الكون.. وساحة الناس

حب هو دنيا الكون

أراه هنا.. ويلوح هناك

كما في العتمة والإشراق

حيث لا حدود له.. ولا سدود تقف في طريقه.. هذا الحب النقي يا شاعرتنا افتقدناه في حياتنا.. لدينا حب من نوع آخر.. حب الذات.. حب المال.. حب الظهور.. حب النفاق.. حب الحرب.. وحب التسلط على حقوق الضعفاء.. ومن الحب ما قتل.. لم نفقد الحب.. ولكن موازينه اهتزت وتخلت عن مواقفها وواقعها.. ولسوف يعود الحب لأن الحياة حب.. والحب حياة.. ألم يقل لك الحب إنه الوجود وإنك صغيرة تحتمين بدفئه.. وتحتسين كأسه الحلو..

ومن الحب إلى الخواطر:

درب طويل

وليل كحيل

وحب مليل

وأمل ضئيل

ماذا جرى يا عزة؟ كنا معك حالمين.. والآن معك عالمين.. خرجت من الخيال الرومانسي إلى الواقع.. وعن الواقع تتحدثين.

يل بلا قلب

وقلب بلا حب

وعيون بلا هدب

وحب بلا حب..

عريتِ الواقع من أوراقه الخضراء القليلة.. لم تبق لنا منه إلا أوراقه الرمادية العليلة.. معك الحق.. فقد كبرتِ عن الطوق.. تجاوزت أحلام الصغر وما أحلاها.. وعشتِ واقع الكبر وما أمرّه.. مرحلة تجربة لابد منها لكِ ولغيرك..

فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نساء.. ويوم نسر

تلك هي سنة الحياة.. وطبيعة الأشياء ومتغيراتها..

أعطني قلبي

أعطني حبا

لأعيش بآمالي

لأحيا لحياتي..

الأشياء لا تسترد.. وإنما تصادر.. لا يهم أن لا يعطيك أحد ما تطلبينه.. المهم أن تعطي ذلك الأحد ما يطلبه.. إنه الإيثار والتسامح.. في وطنياتها لوطنها غيرة وخوف.. غيرة من النسيم وهو يلثم خد وطنها.. وخشية من قدم غاصب يتطلع إليها في طمع..

أغار عليها من لثم خديها

أغار من قدم غاصب ترنو إليها..

الغاصب يا عزة يُخشى منه ولا يُغار من قدمه.. الغيرة حب.. والغاصب رعب دونه الحديد والنار.. الغاصب يا شاعرتنا قرأناه واقعا على أرض الرافدين.. وتراب فلسطين.. وأماكن أخرى استباح أرضها وعرضها وكرامة أهلها.. ألست القائلة في مقطوعتك (جرح فلسطين)؟

بلد جريح

وقلب يئن

طفل صغير

يبحث عن والديه

كبرياء الجراح

تبحث وراء البطاح

كل هذا بسبب الانبطاح والتشرذم والضعف.. والهوان:

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

ومع هدأة الليل وصمته يطيب لعزة أن ترسم لوحتها في حدود استطاعتها:

في ذات مساء

وبينما يهدي إلينا القمر

أجمل الذكريات

كان ذلك اللقاء

يذكر بماض لم يكن بالبعيد

كان فيه التيه..

والاشتياق البعيد..

حائر ذلك العقل الصغير

الذي أصبح يعبث بالتفكير

لماذا لأن أفكاره تائهة ممزقة بين طرقات الزمن ومطرقته.. لا تقوى على تحديد المكان.. أمسيات شاعرتنا مضت إلى غير رجعة

انتظرت.. ولم أفكر بعده

مسكين أنت أيها القلب

الذي يضم بين الأذنين

أحلى شعور وأرق إحساس

القلب يا عزيزتي عاطفة.. والعقل شعور وإحساس.. فهل العقل هو المسكين..؟ أم القلب؟

ومن هدأته إلى حكاياته.. الليل وعاء يستوعب الخيال.. والواقع وما بينهما.. يستوعب الأحلام.. والأضغاث.. فعن أيها تحدثت.

في الليل الطويل أحدق النظر

حيث الظلام بلا حدود

يزرع ضوءه القمر ليورق الأمل

ومثلما في الكون زخم هدوئه

هناك صراع.. دائم ديمومة الأزل

وأعطت لنا نماذج الصراع الأشياء ضد الأشياء.. الظلام وضوء القمر.. اليأس ومزهر الأمل.. الحلم وفراقة الحلم..

أملك قلباً عنيداً ينتظر موعدي السعيد

وما زالت تنتظر على أحر من الجمر.. فهل تكون اللقيا..؟!.. لا أعرف..!

الحلم بالنسبة إليها قاسم مشترك أعظم.. من لا يحلم لا يعلم.. أحلام اليقظة.. أو يقظة الأحلام كلتاهما في حياتنا مصدر استشعار واستمرار.. وعزة هذه المرة واكبت حلمها بالنغم.. انه حلم وردي يستجيب له السماع ويطيب نحوه الاستماع..

رأيتك حلماً.. وسمعتك نغماً

أناديك في سكوني على ضفاف بحيرتي

أرى وجهك بين ورود حديقتي

بلونها الأرجواني ألمح طيفك

يهيم بعيدا.. ليهرب من واقعي

ترى أين المصير؟ أين الملتقى؟

سامحك الله.. سامحتك لأدمعي

التي ضاعت سدى..

أدركت أنها تعيش يقظة حلم لا حلم يقظة ما برح أن تلاشى على فتح عينيها لترى الأشياء دون أشياء

فقتُ من غفوة حلم

ولم أجدك معي.!

هذه المرة رفعت عقيرة العتاب على من تحب.. متأسية بمقولة الشاعر القديم..

إذا ذهب العتاب فليس ود

ويبقى الحب ما بقي العتاب..

لماذا هي عاتبة؟ لقد انتظرت فتى أحلامها طويلا في ليلة شتوية موحشة. ولما لم يأت قالت عاتبة:

ليتك تذكر قلباً تحطم على صخرة حب عنيدة

أبت إلا وان تنهي بين طياتها

وعلى محورها ذات الحب

الذي ولد.. وترعرع

بين أحضان زهور الربيع

واستنشق شذاها..

لم لا تذكر ذلك القلب

الذي طال انتظاره..

لقد ضاع وجودي.. وانتهى..

موقف درامي لحب مأساوي من جانب واحد انتهى إلى لا نهاية.. إلا إذا كان الضياع نهاية.. كما تركها تركته غير آسفة ولا نادمة.. إلى أين هذه المرة..؟ أنها تسائل خطواتها وهي تتحرك تائهة شاخصة بنظراتها نحو الأفق البعيد لعل في الأفق طيفاً من حبيب..

إلى أين يا قدماي تسوقينني؟

إلى حبيب.. أم إلى حافة الهاوية؟

لا.. لن يكون!!

بكل عنفوان أرفض الهاوية

على هذا النسق من الهروب.. والبحث.. والرفض.. تتشكل ملامح صور شاعرتنا.. أحياناً مبتورة.. وأحياناً مأسورة.

وأحياناً مقهورة، ومع هذا لا تتوقف عن السعي والطراد. والاطراد في خطابها الشعري النثري الفني المحدود المساحات، الغامض النهايات.. المتشابه في سرده وديباجته.. شاعرتنا قربتنا معها في هذا التصور في كلمات للذكرى..

كلمات مبعثرة

لا تدري إلى أين يأخذها الهوى

إلى قمة حب عالية!

أم تلقى إلى آخر الهاوية

كلمات ضلت طريقها

إلى متى تجاهل حبها؟!

واحدة من أجمل قصائدها النثرية الفنية حبكة.. وديباجة.. بعنوان (زورق بلا سلاح)

زورق تائه بلا مرسى

بين موجات البحر العالية

حائر يبحث عن ملاح

يأخذه إلى بر الأمان

مزقه الضياع

ورمى ببقاياه مبعثرة

على شاطئ الحرمان..

حسنا لقد أجادت.. المضمون جلي.. والإطار اللفظي جميل ومعبر.

مقطوعات لا يسمح زمن الرحلة بالتوقف عندها.. (هل نسيت؟) و(الطريق) و(خداع) و(القلب الصغير).. و(حبيبتي) و(قلبي) و(حياتي).. عناوينها تنم عن مضامينها.. القلب واحد.. والحب واحد.. وما بين القلب والحب صراع ينتهي إلى خداع.. أو انخداع.. أو انتظار.. نادراً ما ينتهي في لغة الشعراء إلى انصهار لا وجع فيه ولا شجار معه..

عزة الأم. الحبيبة.. والقريبة اختارت زنبقتها السمراء كي تودعها أحلى ما لديها من نغم..

زنبقتي السوداء

حبيبتي السمراء

أنظر إلى سحرك الجميل

إلى داخل قلبك العميق

لألملم النظر حول سمرتك يا قمر

النظر يا شاعرتنا رؤية.. والرؤية مشاهدة.. والقلب في الداخل لا يرقب السمرة ولا يصورها.. ان المرأة في جسدها.. في وجهها.. في سحنتها الظاهرة.. دعي القلب لدقاته.. وامنحي النظر الفرصة إلى التعمق في مشهدها الذي لا يحتاج إلى غوص نحو الداخل..

حبيبتي السمراء

شعرك الجميل يهفهف على خديك

وعلى عنقك الطويل

ليلثم ثغرك الهادئ الوديع

عيناك يا حبيبتي كالسهام

ترمي في قلبي هواكِ

ونظرتك يا سمرتي..

يا حلوتي اعمق من ماء البحر..

وأخيراً مع شاعرتنا عزة فؤاد شاكر يترجل بنا الركب.. تقف القافلة أمام سلة التفاح وقد أغرانا شكل عنوانها:

البحر واسع الأبعاد

لا حدود تقيد المكان

مركب.. وملاح.. يتهيبان حيث لا هدف..

خلف نجمة تؤوب في وله

لتسقط في أقصى المغيب

فيما وراء حدود المكان

وأنظر إلى نفسي.. أبحث أين أقف؟!

أقول لها.. قفي أمام سلة التفاح حذار أن تأكليها فتطالك غواية حواء.. تطلعي إليها.. مصمصي بشفاهك تفاحة منها.. تمتعي بجمالها.. أما البحر.. والمركب.. والملاح فدعيها لمن يستسهل الخطر ويهوى المغامرة.. نصفنا الحلو أشبه بتفاحة بستان كوني لم ينصفه النصف الخشن.. وإنما أبقى عليه داخل زنزانة رجولته.. لأنه الحاكم بأمره وحده.

وبعد.. وقد خلصنا من أشرعة الليل وهي تتحرك عبر سواده في رحلة بيضاوية مطاياها طيعة.. خطاها قصيرة لا تجهد.. حاديها تلقائي في حدوه وشدوه وشجوه.. شعرت أنني مع شاعرة لحداثتها وضوح.. ولتحديثها لغة بعيدة عن الغموض والتكلف.. حداثة هي خارج دائرة حداثة الحداثة التي تعوزنا جميعاً إلى ترجمة لفك رموزها.. لا يهم.. أن تأتي جمل الديوان منثورة.. وعلى أي نحو تصنف؛ شعر منثور.. نثر فني.. الفكرة أولاً.. والوضوح ثانياً.. وعقوبة الطرح دون تكلف ثالثاً وأخيراً..

لشاعرتنا عزة فؤاد شاكر الشكر.. ومع ديوان لشاعر آخر.

* الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسة

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد
مواقع الجزيرة

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة