Al Jazirah NewsPaper Monday  15/01/2007 G Issue 182
قراءات
الأثنين 26 ,ذو الحجة 1427   العدد  182
 

تحديث الشكل الحكائي على ضوء التصور الإسلامي في رواية (توبة وسُليَّ) لمها محمد الفيصل (*) «1-2»
د. محمد أبو بكر حميد

 

 

وقال الملك سلوان لفارس:

(ترى أنشم رائحة الجنة يا أُخَيَّ؟!

ترى أنشمها؟!)

لا تستطيع السحب مهما تراكمت أن تحجب أشعة الشمس ودفئها طويلاً عن الدنيا.. وهكذا المواهب الأصيلة تستمر في العطاء، ولا تستسلم للعوائق، وتفرض نفسها على الحياة بقوة واستحقاق واقتدار، و(مها بنت محمد بن فيصل بن عبد العزيز آل سعود) موهبة أصيلة ومقدرة على العطاء فلو كانت موهبتها مجرد مغامرة أدبية لأميرة مثقفة لكانت مثل شهب السماء يظهر لمعانها مرة ثم تحترق وتختفي، ولو كانت موهبتها مجرد ظهور مفاجئ في الحياة الأدبية بكفاءة غير أصيلة لما تكرر نتاجها، ولو كانت موهبة ضعيفة لصمتت بعد صدور عملها الأدبي الأول، ولو كانت ترغب فقط أن تضيف مجداً إلى مجد لأصابها الإحباط، وكفت عن الكتابة بسبب عدم احتفاء الأوساط الأدبية والثقافية السعودية بروايتها الأولى لعدة أشهر بعد صدروها.

والحقيقة في رأيي أن تأخير الاعتراف والترحيب بموهبتها يعود لسببين: أولهما يعود للكاتبة نفسها، إذ لم ترد أن تستعين بنسبها لخدمة موهبتها، فهي لم تلجأ إلى الأساليب التي يلجأ إليها عادةً أصحاب المؤلفات في الاتصال بأصحاب الأقلام في الصحف والمسؤولين عن الصفحات الثقافية لحثهم بطرق مباشرة أو غير مباشرة على النشر عن مؤلفاتهم أو مجاملة النقاد لفعل الشيء نفسه. خشيت مها محمد الفيصل أن تقوم تلك الجهات بالكتابة عنها مجاملة لها بصفتها أميرة لا بصفتها أديبة فتحرجت حتى في إهداء أعمالها لذلك النوع من الشخصيات الثقافية خشية تلك المظنة إلا بعد إلحاح من بعض المحيطين بها الذين أدركوا أصالة موهبتها وحقها في الظهور. أما السبب الآخر فيعود لبعض الكُتَّاب الذين تأخروا في الكتابة عنها حتى لا يُظن بهم أن ما كتبوه مجاملة للأميرة أكثر منه إنصافاً للمبدعة. ولكن ما أن كادت تصدر روايتها الثانية حتى توالت المقالات والدراسات والندوات عن روايتها الأولى في الأوساط الثقافية السعودية معترفة لها عن استحقاق وبلا مجاملة بالإبداع والموهبة الأصيلة.

وقد صدرت ل(مها محمد الفيصل) روايتان حتى الآن وهما (توبة وسُلي) و(سفينة وأميرة الظلال) والرواية الثالثة تحت الطبع والرواية الرابعة قيد الإبداع كما أصدرت عشر مجموعات من قصص الأطفال باللغتين العربية والإنجليزية. والأميرة الأديبة متعددة المواهب الفنية، فهي تتولى بنفسها المراجعة والإشراف الفني على الرسوم والتصميم والإخراج لقصص الأطفال التي تكتبها، فهي ترى أن الشكل الفني للكتاب الذي يحمل القصة جزءاً لا يتجزأ من مؤثرات الرسالة التي تريد إيصالها للطفل ذهنياً وذوقياً.

ورغم أن الكاتبة تجيد اللغتين الفرنسية والإنجليزية ولها باع في أدب هاتين اللغتين إلا أنها آثرت في إبداعها أن تبحر بسفينتها إلى الداخل.. إلى عمق تراثها العربي وأن يعيش أبطالها في ظلال الإسلام.. وهذا ليس بعجيب على كاتبة تلتزم إبداعاتها الرؤية الإسلامية المستنيرة للإنسان والحياة والكون في كل شيء في أدبها، وقد انعكست هذه الرؤية بوضوح على روايتها الأولى (توبة وسُليَّ) الصادرة في طبعتها الأولى سنة 2003 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت.

نسيج الحدث والشكل الحكائي

إذا كانت السريالية في الأدب الغربي تعتمد على الحلم في تصوير الأعمال الفنية محررة الكلمات من البنية الشكلية للقوالب التقليدية دون وضع اعتبار لوضوح المضمون أو هدف الرسالة التي يريد الفنان التعبير عنها، فإن مها بنت محمد بن فيصل بن عبد العزيز آل سعود في روايتها الأولى (توبة وسُليَّ) لم تلتزم بالبناء الفني التقليدي للرواية الذي أخذناه من الأدب الغربي، وإنما صنعت لنفسها شكلاً عربياً في الفن الحكائي. لم تضع أيضاً شكلاً فنياً لروايتها ولم تحده بحدود وإنما تركته أبواباً مفتوحة بلا نهايات، وحكايات متداخلة في بعضها البعض بلا بدايات وأسلوب في البناء أشبه بشكل الحلم الذي لا تقوم أحداثه على روابط منطقية بقدر ما يكون التفسير الذي تدل عليه هذه الأحداث في الحلم منطقياً.

لهذا فإن المهم في هذه الحكايات ليست البداية والنهاية بل الحدث نفسه فمتابعتنا للحدث من خلال عناصر التشويق تحقق لنا المتعة بالتجربة والفائدة منها في آنٍ واحد. وإذا كان هناك من شبه بين حكايات هذا العمل الفني وحكايات ألف ليلة وليلة فإنه لا يكون إلا من حيث التعدد، فحكايات ألف ليلة وليلة بسيطة التركيب، سهلة التتبع لا تحمل رموزاً ولا تحتمل تفسيراً أكثر مما تقوله الحكاية نفسها، بينما النسيج الحكائي في حكايات كاتبتنا نسيج يقوم على التعقيد في حركته والتركيب في بنائه، ذلك لأنه لا يقوم على الأسلوب التقليدي في السرد والحكي وإنما يصطنع أسلوباً تتداخل فيه الحقيقة بالخيال والواقع بالحلم، فالحكايات متداخلة في بعضها بعضاً لدرجة يصعب على القارئ تتبعها في قراءة واحدة، فما أن تبدأ حكاية حتى تولد داخلها حكاية أخرى تقود إلى حكاية ثالثة ثم نعود بعد تجوال طويل إلى استكمال الحكاية الأكبر.

ومع ذلك فهذه الحكايات جميعاً لا تبدو منفصلة أو مستقلة بل يربطها جميعا شخصية الراوي الأساسي (فارس بن محمد آل رخوان) الذي تبدأ معه الحكايات وتستمر طوال ترحاله حتى النهاية، وبهذا يكون شخصه السلسة التي تنتظم عليها كل حكايات الشخصيات التي يلتقيها وتصل في مجموعها إلى حوالي خمس وعشرين حكاية.

ولا شك أن إدارة نسيج هذه الحكايات فنياً وإعادة ربطها بعضها ببعض قد استغرقت من المؤلفة جهداً، وتوافرت في معظمها عناصر تشويق تستكمل الحكايات المتداخلة وتجعلنا بانتظار الوصول إلى نهاياتها.

ومتانة النسيج الحكائي لا تعتمد على شخص فارس وإنما أيضاً تعتمد على الصلات التي تربط بين الحكايات بحيث لا تكون كل حكاية مستقلة بذاتها عن الأخرى، ونستطيع أن نقول: إن الروابط في هذا النسيج الحكائي ثلاثة أنواع سنضرب لها أمثلة كما يلي:

أولاً: روابط تقوم على أساس الشخصية فمثلاً شخصية راح المرأة التي أحبها فارس تشكل قاسماً مشتركاً لحكايتين لأنها هي نفسها - كما نكتشف لاحقاً - زوجة الملك سلوان.

ثانياً: روابط تقوم على أساس الفكرة للعبرة فهناك صلة بين حكاية الملك الذي أحب نفسه فكان رمز الأنانية والفتاة الحقود التي ألُُبست ثوباً من الشوك بدلاً من ثوب الورد وما نتعلمه بمعرفة حكايتها.

ثالثاً: روابط تقوم على أساس الشخصية والفكرة معاً في معظم الحكايات كما سنرى.

وهكذا بُنيّت الرواية على مجموعة حكايات متداخلة تُذكر القارئ بصياغة فنية مختلفة عن حكايات ألف ليلة وليلة وتفتتح مقدمتها: (بسم الله الرحمن الرحيم) وتنهيها بقولها: (كتبتها الراجية رحمة ربها، مها أذهب الله عنها الغفلة والأسى) وليس لفصول رواية (توبة وسلي) عناوين أو أرقام، وعدتها أحد عشر فصلاً.

وهنا يلزمنا إيضاح ثلاثة عناصر أساسية تخص جميع الحكايات التي سيتعرض لها فارس خلال تجواله حتى النهاية:

أولاً: ان الورد يشكل العمود الفقري في الحكايات ويرمز في معظم الأحوال لعالم الطهر والنقاء والجمال الذي يتوق إليه معظم الأبطال.

ثانياً: تكثر العبارات الحكمية التي تستخلص العبرة مما يحدث للشخصيات كما تصادفنا أثناء السياق أطروحات فلسفية لقضايا تشغل الإنسان مثل الحب.. الموت.. الإيمان.. الحرية وغيرها.

ثالثاً: جميع الطروحات الفكرية والفلسفية والحكمية تنطلق من التصور الإسلامي للإنسان والحياة والكون، والنزعة المتطهرة لدى الشخصيات تقف وراء الكثير من تصرفاتها وردود أفعالها، ويأتي التضمين الفني للآيات القرآنية والأحاديث النبوية نصاً أو معنى وللألفاظ ذات الدلالة والإيحاء ولقصص القرآن لتعزيز الفكرة الخاصة التي تريد المؤلفة التعبير عنها في هذا العمل الفني الحكائي.

وقبل البدء في الترحال مع أبطال الحكايات يلزمنا التعرف على الفكر الذي تصدر عنه الشخصيات والبيئة التي تعيش فيها، وهما عنصران أساسيان في تقديم العون لنا على فهم أعمال هذه الشخصيات وتفسير سلوكها، ولأن البيئة التي تدور فيها أحداث حكايات شخصيات هذا العمل الفني بيئة إسلامية صرفة نجد أبطالها يرتادون المساجد ويتلون القرآن ويعدون بما فيه، فكان طبيعياً أن يحتوى السرد الحكائي سواء بقلم الكاتبة أو على ألسنة الشخصيات تضمينات لألفاظ القرآن وقصص آدم وحواء ويوسف وإخوته وأصحاب الأخدود ووصف الجنة وذكر يوم القيامة، وباستثناء الرمز والإيحاء وسرد الحكايات على لسان الوردة فإن الشخصيات معظمها واقعية الحدث أو واقعية الدلالة وذلك من خلال اهتمام المؤلفة بتصوير الضعف البشري عند أبطالها، رغم أنهم متدينون، زاهدون في الدنيا، متجهون إلى الله.

وقد أنقذ هذا التصوير الواقعي للشخصيات وللفكرة الإسلامية ذاتها عملها من الوقوع في براثن الأساليب التعليمية المباشرة والتقريرية التي يقع فيها بعض الكتاب الذين يتعاملون مع الدين وتصوير الشخصيات المتدينة فيتحولون إلى خطباء لا أدباء وبالتالي يصبح أبطالهم ملائكة لا بشراً، وليس هذا من الإسلام الذي تنطلق مها الفيصل من تصوره للإنسان والحياة والكون في تصويرها لشخصياتها، فالإسلام يعترف بالضعف البشري بل بأسبقية الهوى على التقوى المتمثل في قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (1)، وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) (صحيح الجامع). وباب التوبة في الإسلام مفتوح على مصراعيه لا يُقفل إلا عند الموت، ورب العالمين الذي يؤمن به المسلمون غفور رحيم سبقت رحمته غضبه.

ولهذا لا عجب إذن أن نرى أبطال مها الفيصل جميعاً متدينون بل زهاداً وأتقياء ولكنهم بشر لا ملائكة.. بشر يصيبون ويخطئون ويدرءون بالحسنة السيئة.. يجتهدون في فعل الخير وتجنب السوء لأن جوانحهم نفوس ألهما الله فجورها قبل تقواها لذلك نراهم يمضون حياتهم في مجاهدة هذه النفوس بمحاولة السمو والزهد مؤمنين بأن لهم رباً يغفر الذنب ويقبل التوب ويعفو عن كثير.

البحث عن العصمة

البطل الأول من حيث الظهور في هذه الرواية هو فارس بن محمد آل رخوان العمود الفقري لجميع الحكايات لا نتعرف على اسمه إلا في صفحة (12) عندما استدعى مجرى الأحداث سؤاله عن اسمه، وبهذا الأسلوب نتعرف على أسماء الشخصيات من خلال سياق الأحداث. تبدأ الرواية منذ صفحتها الأولى بداية قوية مؤثرة جمعت في إهابها كل عناصر التشويق الفني والتأثير الوجداني.. تبدأ بحلم هو أقوى تأثيراً من الحقيقة، نمضي في تتبعه بلهفة دون أن نعرف أنه حلم. ولا بد من الوقوف عند البداية لأن هذه البداية يُبنى عليها كل ما سيحدث من بعد فنياً وفكرياً. يبدأ فارس آل رخوان حكايته بقوله: (أبصرت طريقاً ثم أضعته، فكأنما شيء من خيال جال في خاطري فطاف بي لأتبعه، بيد أن الحقيقة تنأى وأنا سائر جوّاب أحلام. وإذا بي أصل إلى رجل ساجد في خشوع تام.. طال سجوده حتى ظننت أنه لا يقوم، ثم اعتدل من سجوده جالساً، فبدا لي وكأنه قد ملأ الأفق لدى استوائه؟؟ وصغرت الفلاة من حولنا على سعتها، عجبت لما رأيت، ثم سلم الرجل وحيث همس بالسلام عليكم تحركت الرمال عصفا، يمينا ثم يساراً، وما أن هاجت الأرض لسلامه حتى سكنت. وكأن شيئاً لم يحركها! جلل الخوف قلبي لما رأيت من أمره، فلزمت مكاني، التفت نحوي ثم قال: قم معي لنُصلَّ على الميت (وينظر فارس فلا يرى أحداً، فإذا بالرجل يشير إلى نعش كان أمامه، قد لُفَّ صاحبه بقماش أخضر اللون طُرَّز بآيات من كتاب الله، وقام فارس يصلي معه على الميت وما كاد يحرك رأسه بالسلام يميناً حتى غاب النعش من أمامه، فلما سأل الرجل قال له: (ما لك تسأل عن مصير النعوش، أوَشَكّاً في وجهتها؟) ثم قال له: (صار إلى هذا).. ثم أخذ ترابا وقال لفارس: أتحسب أنك في حلم؟ هذه الحقيقة ورماه بقبضة التراب وهو يضحك) فلما فزع فارس قال له: (أما يكون الأجدى أن يروعك طول اجتراحك السيئات!) وأفاق فارس من نومه وهو يردد: (طول اجتراحي السيئات.. طول اجتراحي السيئات)(2).

يحمل هذا المشهد كل مقومات الحلم من الناحية الشكلية في تركيبه ولكنه استطاع التعبير بعمق عن حقائق طالما حاول الإنسان تجاهلها إذ يزرع فينا الحقيقة عدة تساؤلات تدعونا لتتبع الأحداث: من هو الحي؟ ومن هو الميت؟ ألا يمكن أن يكون تذكير بحقيقة أن الأحياء إذا ماتوا انتبهوا، وذلك استنتاجاَ من قول فارس (وحسبتني الميت من شدة ما بي من خوف) وهنا نتساءل أيضاً ولمن النعش؟ وما الذي يرمز إليه؟ ولماذا اختفى وما العلاقة بين قبضة التراب والصحو وتذكر اجتراح السيئات؟

صدق الرجل الذي قال لفارس (أتحسب أنك في حلم؟.. هذه الحقيقة!)... فالموت هو الحقيقة الوحيدة التي يحاول أن يهرب منها الإنسان لأنه يخاف مواجهتها.. يروعه ذكرها دون أن يدري لماذا، لا بد للرجل أن يكشف لفارس القناع حين يقول له: إن الأجدى به أن يخاف طول اجتراحه السيئات. وهنا يصحو فارس صحوة حقيقية مدركاً الصلة بين الموت وطول اجتراح السيئات.. يتحرك ضمير المسلم ووجدان المؤمن تلقائياً في شخص فارس إذ تستدعي عبارة اجتراح السيئات إلى الذاكرة قوله تعالى: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}(3)، ومن الواضح أن الروائية تطرح لنا من خلال هذا المشهد - بكل دلالات الغموض والرموز المحتشدة فيه - مسألة غاية الوجود الإنساني في عقيدة المسلم، فالمسلم بفطرته وإيمانه يخشى أن يموت مجترحاً للسيئات ويعمل على أن يلقى ربه متطهراً من ذنوبه قدر المستطاع، فإذا فعل ذلك فلن يكون هناك ثمة خوف من الموت في نفسه لهذا فالأولى بالإنسان أن ينشغل بذنوبه بدلاً من تتبع عيوب الآخرين. أما قبضة التراب التي طارت في الهواء فهي مصير الوجود المادي لكل إنسان حيث ينتهي إلى قبضة تراب.

وهذه (الفكرة) تؤكدها بقية قصة فارس الذي عزم على مراقبة نفسه ليعرف كيف طال اجتراحه السيئات، وكان ذاك اليوم يوم عرسه، وعندما تحدث إلى زوجته عرف أنها (حمقاء) فأخذ على نفسه عهداً أن يصبر عليها، علَ ذلك يشفع له عند ربه بعد طول اجتراحه السيئات: (لعلكم حسبتم أن الجلوس إلى الحمقى شيءٌ محتمل، أقول لكم إن جلوس أصحاب الأخدود على النار قد يقصر، على حين تطول الحياة على بليد)(4)، وأنجبت له الزوجة الحمقاء أربعة أبناء في مثل حمقها، وورثت عن أبيها حظيرة أبقار، وعن أمها ذهباً كثيراً، فترك فارس كل هذا بعد أكثر من سبعة عشر عاماً كان خلالها باراً بأهله، وعندما رأى هذا الحلم نهض ينفض التراب عن زوجته وهي في سبات عميق ويتخذ فارس قراره حين يقول: (قبلت أبنائي الأربعة دون أن ينتبهوا إلى سقوط عبرات الحزن على وجناتهم الوافرة، أو يحركوا ساكناًَ، ثم ذهبت إلى غير عودة إن شاء الله)(5).

ونخلص من هذا أن فارس انشغل بقضية اجتراحه السيئات عمّا سواها من أمور حياته فلا العرس ولا المال ولا البنون تشغله عمّا هو فيه، لهذا نجده يسخر سخرية فلسفية من شيخ الجامع الذي قال له: (إن في زواجك عصمةً لك من السيئات) فيجيبه بمرارة (يا شيخ إن العصمة من السيئات لا تكون بالزواج!)(6) وهذا يجعلنا نتساءل: إن لم يكن الزواج سبباً للعصمة فبمَ يكون؟! ولكننا لا نلبث أن نعثر على الجواب في سياق الأحداث بأن العصمة الحقيقية التي يقصدها فارس هو الزهد في متاع الحياة الدنيا وزينتها وهذا ما نجده في سلوكه الذي تجعلنا تصرفاته نستدعي الآية الكريمة التي تذكر بيوم الحشر {كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً}(7).

تلك هي قيامة فارس قد قامت وهذا ما فعله حين فر من كل من حوله، ولكن إلى أين؟!

جاب الآفاق وترحل في أراضٍ كثيرة وصادف أُناساً أكثر، وواجه الأهوال والصعاب وتعرض للمحن والفتن، فهل نجا منها؟ وهل حقق (العصمة) التي يريد؟ وهل زهد في كل الدنيا؟

صادف زهاداً وأصحاب تجارب، فهل استفاد بعد كل ما عرف عن حياتهم؟ وهل عمل بالنصح الذي أسدوه إليه وتجنب ما كان يعرف سلفاً عواقبه؟

من الواضح أن مها الفيصل تريد أن ترمز بشخص فارس للإنسان المسلم الذي يعمل جاهداً على تغليب تقواه على نزعات الهوى في نفسه... ترك فارس وطنه وأهله صادقاً في تجنب الفتن والزلل، وبالفعل تجاوز كل ما تعرض له من فتن الدنيا إلا فتنة واحدة!!

كتاب الورد الأحمر

بدأ فارس ترحاله، ركب سفينة دلُوه عليها تسمى العطاء للقبطان مراد، وهي مركب صغير بداله كأن البحر قد لفظه لرثاثة هيئته وخرجت من إحدى الغرف فتاة حسناء هي سُليّ جارية القبطان، وعندما دخل فارس غرفتها دهش: (دخلنا إلى غرفة لم أر في حياتي لها مثيلاً، واسعة قد ملئت بشموع عطرة، غطت جدرانها أحسن الأقمشة وأبهجها، وفُرشت بسجاد بديع ووسائد وافرة، كان بها صحاف رصت فيها فواكه وأطايب متنوعة، فكأنما النعيم قد كسا المكان بكل ما لديه وزيادة)(8).

وعندما جالت عيناه في أرجاء الغرفة رأى عن يمينه (قفصاً كبيراً مليئاً بالطيور الجميلة متعددة الألوان والأحجام كلها صامتة، وعن شماله نولاً لحياكة السجاد صنع من ذهب رُصع به الجوهر وعلى السجادة التي لم تتم شاهد رجالاً ونساء يرتدون ثياباً فاخرة، ويتجولون في قصور بديعة)(9) ويعرف فارس من مراد أن تلك صنعة سُليَّ، ويلاحظ علامات الحزن والأسى على وجوه أصحاب تلك الصور، فيقول له مراد ما هو أكثر غرابة إن هؤلاء سجناء (قد سجنتهم سُليَّ في نسجها!)(10) ويعجب فارس حين يرى صورته بدأت تظهر في النسيج لكنها لم تكتمل.

رأى فارس زينة الحياة الدنيا في محتويات غرفة سُليَّ وأقدار الناس في نسيجها، والحياة هي غرفة سُليَّ البديعة التي امتلأت بكل ما يُبهج ويُبهر وبكل ما لذ وطاب. لهذا ظهر الناس لفارس سجناء في هذا النسيج. ولعل الكاتبة تريد أن تقول هكذا الناس في الحياة، فهم إما سجناء ما حصلوا عليه منها أو سجناء ما يأملون في الحصول عليه، وفي كلا الحالتين هم عبيد لها يلهثون خلفها بين خائف حريص وطامع متأمل.. يرتدون ثياباً فاخرةً ويتجولون في قصور بديعة ولكن على وجوههم علامات الحزن والأسى وهذا ما جعل فارس يتساءل: (أو يُحبس الأحياء في نسيج من زينة ؟!)(11). وهنا نعثر على الفكرة الخاصة التي ترمي إليها المؤلفة من خلال تصوير هذا المشهد بكل ما رآه فارس في غرفة سليّ وعلى سجادتها في إطار الآية القرآنية: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا}(12).

فما هو هذا الكتاب وما القصص التي يحتويها وما حكاية سارة والسجادة والورد؟

لا عجب أن يكون في بيت الأميرة المؤلفة (بساط إيراني الصنع تبريزي الحبكة، لطيف الزخرفة إذا رأيته خلته بستاناً من الزهور البهيجة يلمع كالسراب، ويتلألأ كالماء الذي تموج من تحته الألوان والصور، يتحرك ظلال الحس عليها حتى كادت أزهاره تنطق فتغني..)(13).

ولا عجب أن تستوحي المؤلفة من هذا البساط البديع فكرة أن الأزهار تتغنى بأشعار رقيقة لحافظ الشيرازي، ولا عجب أيضاً أن تصف مها الفيصل الطفولة البريئة بالورد (ذات يوم في هذا الدار طفلة.. في الشرق أساطير تروى منها: إنه عندما تولد فتاة في الأرض، تزهر وردة في الجنان.. وقد أزهرت في الأرض سارة..)(14).

ثم تصف لنا المؤلفة هذه الملاحظة في سياق تأليف العلاقة بين سارة والسجادة فتقول: (مضت أيام، بل ولت أشهر وسارة تكبر في هناء وجمال، كان أحب شيء إلى نفسها هو أن تحبو حتى تصل إلى الغرفة التي فيها السجادة، فلعل أمها تفقدها فتجدها دوماً في المكان نفسه، مستأنسة بالصور والألوان التي كانت تهتز على سطحها كإيقاعات خافتة، وأنغام ساكنة، أحياناً تضع أذناً على نسجها كأنها أخذت تنصت إلى همهمات، أو تستمع إلى أسرار فتعلو ضحكاتها، مضت السنون، وقد زادت فيها سارة جمالاً وفطنة)(15).

ثم تمتزج الحقيقة بالخيال والواقع بالحلم حين تقدم لنا المؤلفة تصورها لظروف ظهور الحكايات التي ستحكيها الوردة لسارة: (ذات مساء وهي تروح وتجيء في أروقة بيتها، أبصرت من باب الغرفة التي بها السجادة أجمل وردة وقعت عليها عيناها، وهي تخرج من بين خيوط النسج كما ينبت الزرع من بين حبات الأديم، أشرق جمال الوردة عند تمام نمائها كالشمس، فمالت تيهاً، ونشرت عطراً أحاط البيت سحراً)(16).

استغرقت القصص التي قرأها فارس في كتاب سلي الأحمر الصفحات من 32 - 77 من الرواية أي حوالي 45 صفحة، وهي حكايات تحمل رموزاً ومعاني وحكماً تحكيها الوردة التي خرجت من السجادة للفتاة سارة.

تبدأ الحكايات بحكاية (الملك الذي أحب نفسه) وانشغل بجمع الورد ونثره في أنحاء البلاد حتى انعدم الورد في مملكته، ولما وقع في الغرام فعلاً لم يجد وردة يهديها إلى حبيبته ريحانة نخلص إلى هذه الحكمة: (كمال الورد يكون على قدر صفاء قلب طالبه)(17)، ثم تتداخل معها الحكاية الثانية حكاية الفتاة صاحبة ثوب الشوك التي صنعت ثوباً معطراً من ألف وردة تامة الحسن فتحول إلى ثوب من الشوك فتكون النتيجة: (إن الوردة التي لم تزهر في القلوب أولاً لا بد أن تتقلب إلى أشواك)(18).

وتتضمن (حكاية نوران والراعي)، الخطوط الأساسية للحدث في قصة يوسف عليه السلام وإخوته فنوران فتاة تحب راعياً حباً عُذرياً، وذات يوم أرادت أن تبعث بقارورة ملؤها رحيق الورد الخالص إلى حبيبها، فأخبرت صديقتها الحاسدة إخوة نوران، فكانوا كإخوة يوسف فأخذوا الراعي وألقوه في غياهب الجب بئر قديم فحزنت عليه نوران حزناً عظيماً كحزن يعقوب عليه السلام على يوسف حتى ابيضت عيناها من الحزن ثم يفرج الله عنها (وحيث سارا تحدث الناس عن فتاة تترك خلفها حيث تخطو درباً من الورود...)(19).

وتصور لنا الكاتبة في قصة نوران والراعي متعة الفرجة وعالم الحكم ممتزجاً بعالم الطبيعة والواقع حيث الأصوات والأضواء والجبال والأنهار والبحيرات والعجائب، وكل هذه عناصر تبهر الأطفال أمثال سارة وتشد الكبار أمثالنا. وحكاية نوران والراعي طويلة، تخللتها عدة حكايات مليئة بالحكم والعبر مثل حكايات (سيدة الظلال) و(سيدة الأصوات) و(الرجل الذي أحب الصمت) و(القرد الذي يطحن الجواهر) و(صاحب الموازين).

وبنهاية حكاية الفتاة والراعي يستيقظ مراد فيتوقف فارس آل رخوان عن القراءة في الكتاب الأحمر، كتاب سُليَّ ويضعه في ردائه على أمل أن يستكمل قراءته، ولكن قراصنة يهاجمون السفينة ويخلعون عنه رداءه ويفقد الكتاب فيغادر السفينة في رحلة طويلة.

سعد الماضي وصاحبة القصر

ويستغرق الثلث الأخير من رحلة فارس بحثاً عن العصمة وزهداً في الدنيا وهروباً من الفتن والاقتراب من الله، أربع حكايات مليئة بالأحداث والعبر، يوضع فيها فارس تحت المحك، ويعيش تجربة النفس الإنسانية ذات النوايا الحسنة في عمل الخير، والاجتهاد في تجنب الشر، فيلتقي سعد الماضي ويظل يبحث عن سره، ويتعرف على السيدة صاحبة القصر فتكشف ذلك السر بسرد مأساة حياتها، ثم يلتقي توبة في مشهد عجب وتنتهي حكايته مع توبة بنهاية العمل الفني وقبل النهاية نعيش معه حكاية مرتل القرآن في السجن وحكاية أبي الندى والملك سلوان والفاتنة راح.

وتبدأ بذلك الحدث دورة جديدة من الحكايات المتصلة والمتداخلة، يتعرض فيها فارس للأهوال ويصارع الموت ففي (حكاية سعد الماضي وصاحبة القصر) يجد فارس رجلاً عجوزاً على الشاطئ أخذ البحر ولده (لأنه لم يفصح عن السر للسيدة)(20). يعرف فارس فيما بعد أن هذا الرجل يُدعى سعد الماضي فلما التقاه مرةً ثانية تبعه حتى اختفى في قصر منيف يطل على البحر.. ويلتقي بسيدة القصر فيروي لها قصته وقصة الكتاب وحكاياته، فيكون العجب إذ نجدها تستكمل له حكايات الوردة فيعرف بقية حكاية الراعي عاشق الفتاة كما لو أنها هي القائلة، وعن سعد الماضي تقول: (يا فارس إن سعد الماضي يخرج في كل يوم ويبقى منتظراً يرقب البحر، فلعل الزمان يرجع ولده، سعد لم يكن له ولد، إن قلت له يا سعد ليس لك ولد، قال: كان لا بد أن يكون لي ولد، لكن أخذه البحر)(21).

(كان سعد يحسب أن السر لم تعرفه السيدة ويظن أنه لو أخبرها به لكان اختلف الحال) ثم تقول السيدة لفارس: (سعد الماضي هو الذي رأيت، وأُسكنه عندي، كان قائماً على خيل زوجي، وقد أحبني منذ أن كان فتى لا يفصح لأحد عن عشقه حتى أخذت الأيام عقله من طول الكتمان وجُنّ، وذلك حدث منذ زمن، وحبه هو السر الذي لم يفشه ولده لي، فأخذه البحر، فهو ينتظره أن يعود كالصوت الذي يطلب الصدى)(22).

وتروي سيدة القصر لفارس مأساة حياتها حتى لا يغتر بالنعيم الظاهر الذي تعيش فيه، فقد نشأت في بيت عز عزيزة مُدللة وخُطبت لشاب من كرام قومها، وفي طريق زفافها عروساً لبلدة زوجها يختطفها قراصنة، فيشتريها أحد سادة القوم ويتزوجها، أحبها وأكرمها لكنها لم تنس ذل الأسر وتختم قصتها بقولها: (وحيث إنني أُخذت وأنا مرتدية ثوب عرسي مجهزة بكل زينتي، وذلك كله لتلقي قدري، بقي لي من مال أهلي قرط كنت ألبسه في ذلك اليوم النكد، لم يخلعه القراصنة عن أذني، طلبت من عصماء أن تبيع أحد شقي القرط، لأشتري به كفني، فقد أخذت عهداً على نفسي مهما طال عمري في كنف زوج ألا أُزف إلى ربي إلا بطهر مالي..)(23). وتنتهي حكاية فارس مع السيدة وسعد الماضي إلى وصوله إلى سفان الأعرج القرصان الذي سرق الرداء والكتاب وينتهي بعد حكاية وحكاية إلى استعادة الكتاب، كتاب سُليَّ الذي سُرق منه.

(1)سورة الشمس 8

(2)الرواية ص 7

(3) سورة الجاثية 21

(4) الرواية ص 9

(5) الرواية ص 10

(6) الرواية ص 8

(7)سورة عبس 23 - 27

(8)الرواية ص 20

(9)نفسه ص 21

(10) نفسه ص 22

(11) الرواية ص 22

(12)سورة الكهف 7

(13)الرواية ص25

(14)نفسه ص 26

(15)نفسه ص26

(16)الرواية ص 26

(17)نفسه ص 34

(18)نفسه ص 37

(19)نفسه ص 50

(20)الرواية ص 86

(21)نفسه ص 100

(22)نفسه ص 101

(23)الرواية ص 106

(*) صاحبة السمو الملكي الأميرة مها بنت محمد بن فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، كاتبة وروائية، وقصصية، صدرت لها عدة أعمال أدبية باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، وعدة قصص للأطفال وثلاثة روايات.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسة

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد
مواقع الجزيرة

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة