Al Jazirah NewsPaper Monday  15/01/2007 G Issue 182
الثالثة
الأثنين 26 ,ذو الحجة 1427   العدد  182
 

رؤية
محمد الدبيسي
(دوها)..صوت الذاكرة والحياة

 

 

في تأمل نسق (فني) كالغناء.. على تنوع بيئاته ومصادره ومظاهره في عصرنا الراهن؛ ما يستدعي قراءة اتجاهات الذائقة المتلقية..

المعبرة عن هذه الثقافة أو المشكِّلة لها, ومراجعة اعتبار (الانتشار) مقياساً أو مؤشراً على ما يحكم هذه (الذائقة) من معايير؛ تستعصي على أي محاولة للإحاطة أو الإحصاء..!

** ومع افتراض غياب عنصر (النوعية)؛ فكل ما تنتجه مكنة الكاسيت وما تلفظه الفضائيات؛ من أغاني (الفيديو كليب).. يلقى رواجاً وانتشاراً كبيراً, مما يعزز زعمنا.. بانعدام المعايير المؤطرة أو الفرز الذوقي لذلك... ناهيك عن تعدد طرائق استثمار ذلك الفيض من الأعمال في نغمات أجهزة الاتصال.. أو استظهارها وترديدها عفوياً، مما يؤكد انتشارها وذيوعها..

ومكانتها في الاهتمام الجمعي.

مما يتعذر معه أي تحديد نوعي لطبيعة هذه الذائقة وسمتها وشروطها.. وهي ظاهرة إشكالية, ليس هذا مكان التفصيل في معطياتها ومحدداتها..!

** وإن كان المظهر الأبرز لها.. هو الطابع (السلعي - النفعي)..

المفضي إلى غياب عنصر الخصوصية وتلاشي القيمة الفنية.. واختلاط وتماهي الفروق الفاصلة بين الثقافات الإقليمية (المنتجة) وسيماها المميزة.. المنبثقة من (ثقافتها المحلية).. والرامزة إلى نطاقها البيئي ومحاضنها الاجتماعية.

** فالكل يغني.. والكل يستمع ويستجيب ويردد..!.. في مشهد تُستثمر فيه ثقافة الجسد.. وتقنيات السيناريو السينمائي ومقاطعه المشهدية.. وإغراءات الحركة التمثيلية.. دون قوانين أو ضوابط ذوقية.. أو فرز لمستويات الاحتراف والجودة في المضمون أو الموهبة الإبداعية.. بل مشاعاً فوضوياً.. مغرقاً في اجتذاب حواس (المستمع - المشاهد).. التي يتناغم في وعيها (ثقافة الغناء) على ذلك الوصف.. مع طابع الحياة ونظامها الآلي السريع والركض المحموم باتجاه فقه (أدبيات) الواقع العصري..!

** في مشهد كهذا.. وفي سدى متغيرات ثقافية.. ورداءة ذوقية.. تلك بعض مظاهرها.. تصدر الناقدة (لمياء باعشن) :(دوها..) أهازيج من الفلكلور الحجازي.. موغلة في عمق الذاكرة والذائقة معاً.. وموقظة مخيلة جمالية.. كانت تلك الأهازيج بعض سلالتها وتجليات إبداعها. (نماذج) فلكلورية شعبية نشأت واستقام عودها في الحجاز.. في مدنه قاطبة، (معوَّلة) على قرار الوجدان.. وما تردد في قاعه قديماً من (أهازيج).. لم تكن ترفاً يُبدد فيه فائض الوقت والاهتمام.. ولم تكن توظيفاً احتياجياً يخفف السأم (فقط).. أو نظماً للكلام بشكل إيقاعي مفرغ من القيمة..! بل مظهراً لثقافة بيئية شاعت في الحواري الحجازية القديمة.. وتراكمت بين أزقتها.. وترسّخت في ذاكرة أبنائها!

** حيث استوطنت وجدان الحجازيين.. فأضحت تجلياً مميزاً لأدبياتهم الحميمة ومذاقاً لأنسٍ فياض.. ينتظم حياتهم ليغدو جزءاً منها..! وممارسة تميز شؤونهم وطقوسهم الأسرية والاجتماعية.. وتستدعيها طبيعة حياتهم وأنظمتها.. فلكل أهزوجة (توقيتها) الخاص ولحنها المغاير.. وتنغيمها الفريد.. وإذا ما ترددت في نطاقها المتعارف عليه.. كان ذلك إشعاراً بمناسبة ما.. أو إشهاراً لها وتعبيراً عن حفاوة الإنسان بها..! (تعبير) تتوارثه الأجيال شفهياً -أو هكذا كان نظام تداوله العفوي - وتتوافق على إدراك دلالاته..! لا يُذكر حتى يستثير الذائقة.. لتستجيب له.. وتتفاعل معه.. وتنحو باتجاهه الحواس، ليتخذ مكانه في الذاكرة.. ويندِّي تداعياتها..! وعندما يُعاد ترداده..فذات المستوى التنغيمي هو ما يحدد المضمون منذ المقاطع الأولى..

** لقد كادت هذه الأهازيج.. أن تذوب في الذاكرة المعاصرة.. ويتبدد وهجها بفعل تراكمات الزمن ومتغيراته.. وتعدد مغريات الذائقة الجديدة وتنوع البدائل والخيارات أمامها.. وندرة أو انعدام الاهتمام البحثي بهذه النوعية من الألوان الشعبية في سياقها الثقافي.. والتي إذا ما اندثرت أوتوارت، إمَّحى مكوّن ثقافي من مكونات الثقافة الشعبية ومخزونها التراثي.

** وإذا كانت الفلكلورات الشعبية تعتبر مؤشراً على رصيد (بيئة ما..).. من المحفوظ الفني الشفهي وخصوصيته الثقافية.. فإن مجموعة (دوها..) تعتبر لوناً من الأوان الفنية لمجتمع.. كان (الفن) بمعناه المتداول والمباشر من مكونات ثقافته.. وبدهيات نشاطه الحياتي السائد.. ولعل إدخال الآلات الموسيقية على أداء هذه الأهازيج.. وتوظيفها إيقاعياً لإضفاء عنصر التجديد العصري عليها بحسب ما جاء بمجموعة (دوها..) يتجاوز القيمة التوثيقية للإصدار, إلى ابتكار آلية تقديمه للذائقة المعاصرة.. التي تغريها وتجتذبها الموسيقى.. بغض النظر عن المضمون والمحتوى النصي المنطوق.

** وحفاظا على نظام أدائها التقليدي وصياغتها التراثية الأصيلة؛ جاءت (دوها..) مصحوبة بالإيقاعات الوترية الهادئة.. مستوعبة روح اللحن القديم..الذي صاغته المخيلة الجماعية للحجازيين مع بعض التشذيب الذي طال المقاطع.. لتنتظم تنغيماتها مع الإيقاع الموسيقي الجديد.. وضرورات أدائه الجماعي؛ تجاوزاً للنمطية الشفهية السائدة.. حيث الفواصل الإيقاعية..والوصلات المتناغمة مع الكلام.. تأخذ شكلها الأدائي الجديد.. دون تغيير يطال سمات الأهزوجة الأصلية، التي حفظتها وصدَّرتها الذاكرة.. ذلك المستودع الشعوري الأمين بحيويته الدفاقة.. وبنظام تشكيله البديع.

** إن الطريقة الاحترافية في توثيق هذه النوعية من الفلكلور الشعبي الشفهي (الفني) وفي إعادة إنتاجها بهذه التقنية العصرية.. تأخذ أهميتها من تحقيقها لهدفين في نظري:

1 - التوثيق الاحترافي للتراث الفلكلوري الحجازي عبر نوعية الإصدار (سي دي) مشفوعا بكتيب صغير (بروشور) يتضمن مقدمة نظرية لدوافع هذا الاهتمام.. وطبيعة جهد المُعِدين في جمع المادة وتوثيق (النصوص-الأهازيج) وتدوينها النصي بطابعها اللهجي الأصلي الذي يحدد الجنس الإبداعي لها, ويؤكد التوافق بين المنطوق والمكتوب.

2 - تلوين الذائقة العصرية.. وكسر نمطية ارتهانها لما يُلقى إليها من أعمال فنية, لا يملك أغلبها سمات تميزه نوعيته.. أو ترمز إلى البيئات الثقافية التي أنتجته.. (لبناني خليجي مغاربي أوربي...).. حيث لم يعد ثمة جوهر يُعنى بالقيمة أوالكيفية فضلاً عن أن يعبر عنها.. أو يجلِّي طبيعة (الفوارق) بين الثقافات المنتجة لهذا الركام من الأغاني..؟

** وأصبح من النادر وجود لون غنائي مُستقى من منابعه الحقيقة؛ يشير إلى بيئته الخاصة والقيم الثقافية التي تستوطنها, ولاسيما إذا ما اعتبرنا (الأطفال) إحدى الشرائح المتلقية لهذه الاعمال, والمستهدفة بها.. حيث يستفزهم الجديد والمختلف.. وتبهرهم الصورة المتحركة والمقاطع المتتابعة, وتنشدُّ أذهانهم إلى ما فيها من مفاجآت ومفارقات،.. وهو ما ينطوي في عمقه ومعناه، على إقصاء الأطفال من اهتمام الجهات والأشخاص المنتجين للأعمال الغنائية.. إذ لا يتوجهون إليهم بما يربي فيهم ذوقاً جمالياً أو قيماً ثقافية وفنية.. أو يحرك حواسهم إيجابياً..! بل يتم توظيفهم في السيناريو التصويري للأعمال الغنائية، بما ينم عن استخفاف واستثمار نفعي غير لائق بهم.

** ومن ثم فإن قيمة هذا العمل تنبع من أصالته البيئية ونطاق تداوله الاجتماعي.. وإحيائه لذاكرة الطفولة.. واستنهاضه لنشيدها القديم وتفاصيل فرحها الدائم.. وإيقاظه لصوت الحارة الحجازية.. الذي كان صوتاً للإنسان والحياة.. وما حفظته الذاكرة الأولى لمجتمع كان ذوَّاقاً.. وواعياً بقيمة ذاته وثقافته وتراثه.

* دوها.. أهازيج من الفلكلور الحجازي. فكرة وإعداد د.لمياء باعشن.. توزيع موسيقي وإخراج عبدالعزيز فتيحي.

md1413@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسة

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد
مواقع الجزيرة

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة