Culture Magazine Monday  17/09/2007 G Issue 216
فضاءات
الأثنين 5 ,رمضان 1428   العدد  216
 

بعض من عرفت! «1»
عبد الفتاح أبو مدين

 

 

في كتابي (هؤلاء عرفت)، الصادر بتاريخ 1421هـ، الموافق شهر أكتوبر 2000م، تحدثت عن أسماء وشخصيات لها في نفسي مكانة، وفي قلبي محبة؛ لأنها أثّرت فيها تأثيرات فيها تواز؛ فكان لها معنى ومغنى ألفة وقرب ومودة؛ لذلك تحدثت عنها في تلقائية وانسياب تعبيري لا مكان فيه للتكلف والتصنع اللذين يظهران عند المطالعة التلقائية العابرة، تحدثت عن إحدى عشرة شخصية، وعاتبني بعض الصديق لأني قصّرت في إعطاء بعض الشخصيات حقها من الحديث والدرس، مثل أستاذي الجليل الشيخ محمد الحافظ بن موسى - طيب الله ثراه -. وعذري أن معايشتي له في المدينة المنورة لم تطل حتى أتابع ثقافته الواسعة في الشريعة والأدب والأنساب وغير ذلك؛ فهو قد كان دائرة معارف متنقلة، والحاجز ربما كان مرده أن هذا الأستاذ الجليل (لا يكتب)، وحتى لو أريد منه أن يسجل له بعض أحاديثه التلقائية التي ينطلق فيها بمجرد أن يسأل في قضية، ولا سيما في الماضي وحتى الحاضر، لعله يخشى بعض العواقب، إذا سجلت له أحاديث ونشرت أو أذيعت دون أن يطلع عليها.. ولا أدل على تلك الانطلاقة التي كانت حينما دعاه النادي الأدبي الثقافي ليتحدث فيه، وكان المكان - مؤسسة المدينة المنورة للصحافة والنشر، مساء يوم 1-6-1404هـ - 3-3-1984م-، أسميناها حفل تكريم له، جاء من أجله لفيف من محبيه وأصدقائه من المدينة، كما حضرها الكثيرون من جدة ومكة ممن يعرفه وممن لا يعرفه.. وقدمت لذلك الملتقى الشائق الرائق الرائع، بكلمة أقل بكثير من قدر هذا الرمز المتميز ذي الثقافة المتعددة الجوانب وسماحة المتحدث ووفائه وأستاذيته ومروءته وأدب نفسه وإخلاصه في أدائه، يوم كان معلماً في مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة، ويوم كان يلقي دروسه في المسجد النبوي الشريف، ويوم كان قاضياً في المحكمة الشرعية في البلد الطيّب، دار الحنان والأمان والسكينة، ولا أطيل في بسط خصال أستاذي فقد قلت بعض ما في نفسي حين تحدثت عنه في (هؤلاء عرفت).. وليلة احتفائنا بهذا الرجل المخلص - طيب الله ثراه -، سقت في المقدمة كلمة أو جملة من ذي البيان المشرق أستاذنا محمد حسين زيدان رحمه الله، ولعلي أطلقت عليه كلمة - مهندس -، وهندسته في أحاديثه ذات ميزة نادرة في العصر الحديث، فهو حين يتحدث يبدع، يشرّق ويغرّب في تعابير مجنحة رائعة تطرب عشاق البيان العربي في هذه اللغة الشاعرة البديعة.. قال أستاذنا الزيدان في الأسبوع الذي سبق الاحتفاء بأستاذنا الجليل: (إن المدينة تنبت الحب) ولا أدل على هذا الوصف من قول الله - عز وجل - في حق الأنصار: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).. وما قاله أستاذنا الزيدان من منطلق قول الحق سبحانه وتعالى.. وحين وقف مهندس الكلمة البليغة مشاركاً في الاحتفاء قال: (كنت أزور كلاماً عن الحافظ، فإذا أهلي من المدينة وإخواني، رأيتهم قد جاءوا ليحتفوا بواحد منهم، فأكبرت لهم هذا، وإن سمي عصبية فلنعم العصبية، وإن سمي وفاء فلنعم الوفاء، وقال إنه ليس بالكثير عليه أن ينبغ، فالذين عاشوا الترف لا يعنيهم أن يكونوا طامحين، أما الذين ذاقوا السغب فما أكثر ما أجادوا، وما أكثر ما استفادوا).. وكعادة أستاذنا الكبير أخذ يشرّق ويغرّب ويضرب الأمثال بنماذج من الرجال الكبار في نفوسهم وما اضطلعوا به من مناصب في دار الهجرة في الماضي، ذكر مالك بن أنس وهو إمام دار الهجرة، وهو إمام من أئمة المسلمين، وذكر نسبه أنه أصبحي وحميري، ثم عرج على القضاة في العصر الحديث في المدينة، فذكر أحمد البرزنجي، أحمد كماخي وعمر كردي الكوراني، إبراهيم البري، وفي المسجد النبوي من العلماء الأكابر: حمدان بن الونيس، عبد العزيز الوزير، عبد الحميد بن باديس، الشيخ الحبيب، عبد القادر الطرابلسي الأول، عبد القادر شلبي، الشيخ الأخميمي، الشيخ حميدة.. وأخشى أن تطول هذه التقدمة رغم أنها مهمة كما يبدو لي، ثم تحدث الأستاذ أمين القرقوري أحد تلاميذ الشيخ الحافظ وتحدث الدكتور رضا عبيد، وألقى الشاعر محمد هاشم رشيد قصيدة، عنوانها: (قمة أنت)، قال فيها:

قمة أنت في سماء البيان

ومنار يشعّ بالعرفان

ويد في القضاء باركها الله

فوفّت عدالة الميزان

فهم في حماك مهما تناءى

بهم القصد إخوة في التداني

يا خضماً في المعارف أحيا

ما فقدناه من قديم الزمان

أنت يا شيخنا بقية جيل

عبقري سما على الأقران

والقصيدة طويلة، يمكن الرجوع إليها وإلى كلمات الاحتفاء وحديث أستاذنا الجليل في المجلد السادس من مجلدات المحاضرات. أما حديث أستاذنا المتدفق، فقد شغل ثلاثاً وأربعين صفحة، ولو تركنا له المجال لامتد إلى ما شاء الله، غير العَشاء - بفتح العين -، فقد أحضر، بل أوشك أن يبرد، فأخذت ألمح لأستاذنا بذلك. وإنها لفرصة ما أجدر حديثه الشائق الجامع أن يمتد وأن يطول؛ لأن هذه المناسبات نوادر في الزمن، لكن الحال ليس بالتمني، وأويقات الصفا والوداد وهذه المناسبات الغوالي بارقات وطوالع وفرص حين تتاح وتنداح بوارق الآمال.

* * *

وهذا الحديث المتجدد الذي أبدأه اليوم، يختص بأخ غال وفي، ذي خصال حميدة وحميدة، لم يتح لي قبل هذا الوقت أن يكون من أولئك الرموز الذين جاء عليهم كتابي - هؤلاء عرفت -، وهناك أسماء أخر، ذكرت بعضها في كتابي - وتلك الأيام -، الذي تحدثت فيه عن تجربتي في الصحافة، ولم يكن ذلك الحديث شبه العابر بكاف عن أسماء محبة مخلصة وفية، وفّت وأعانت وصدقت العمل، كان ينبغي أن أخصهم بأحاديث أرد فيه بعض جميلهم، وأدعو الله أن يحسن إليهم ويجزيهم خير الجزاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أما هذا الحديث فهو عن محب غال، أشكر المناسبة التي حركت نفسي لأؤدي له الواجب الذي قصرت فيه، خلال انشغالي بإدارة النادي الأدبي الثقافي بجدة ربع قرن، فلم يتح لي الوفاء بما عليّ من ديون كثيرة، وقصّرت، وما دمت أتيت على كلمتي التي ألقيت بها في تكريم الرائد الكريم (في الاثنينية)، فمن الواجب التصريح على ما قيل يومها في الأخ الأعز؛ فقد قدم المناسبة وحديثها الأخ الأستاذ حسين نجار - الدكتور -، ثم كلمة صاحب الاثنينية الأستاذ عبد المقصود خوجه، ثم تحدث مهندس الكلمة البارع أستاذنا محمد حسين زيدان، فأشار إلى الأستاذ الشاعر طاهر زمخشري، رحمه الله، الذي سبقه بالحديث، فقال الخطيب المفوّه عن الزمخشري: يذكر هذه الذكريات، لا ليطري أو يثني، وإنما ليغري الآخرين، كي يكونوا قبل الأولين.. فذكر أن الرفاعي من جيل أسرع بعض إخوانه بسرعة فائقة ليلحقوا به فلحقوا، ولكن الرفاعي ارتفع عن السرعة، فإذا يرتفع بالهوينى، كأنما هو لا يشعرك بأنه الفوق، وإنما يأخذ منك، لترغم على أنه الفوق، لا يملي إرادته على أحد، إنما يملي ما يفعله على كل أحد فينا، ذلك أنه صاحب خلق.. وقال: (بالهوينى ارتفع أن يخاصمه أحد)، وبالهوينى ارتفع أن يكون صديق إنسان، بل الكل أحبه، لأنه يأتيك كأنما يسرقك من نفسك بما يعطيك من أدب جم وخلق كريم.. ثم ألقى أستاذنا العالم الفقيه والأديب أبو تراب الظاهري - رحمه الله - قصيدة بعنوان: (أهنئ أنفسنا بعبد العزيز الرفاعي)، قال منها:

باقة الشعر نصِّها الصدّاح

فهي منا تحية ممراح

ضمّخت بالعبير وهو وفاء

وانتشت بالقريض وهو مباح

راقها اليوم أن تمم لفظاً

للرفاعي عقده والوشاح

هو في الحفل لؤلؤ بين صحب

أشرقت منهمُ الوجوه الصباح

هاكها عبد العزيز لحناً ندياً

رنمت عوده المعاني الملاح

لك كرمي فأنت فينا عزيز

طبت نفساً فطاب فيك امتداح

قد حملت اليراع منذ رماني

ليس في إصبعيك منه جماح

ولأسلوبك الجميل الروايا

ملؤها الشهد ذائباً والقراح

ثم تحدث الأستاذ السيد علي حسن فدعق، فقال: (ماذا عساني أن أقول، وقد قيل الكثير عنك؟ إن ما كنت أود أن أقوله، هو أنني سعدت وتشرفت، وكنت من أفضل الناس حظاً، ذلك أني زاملت الأستاذ عبد العزيز الرفاعي طيلة (30) عاماً، وفي هذه الثلاثين عاماً كنت أنتظر كما هي طبيعة البشر أن أختلف مرة مع الأستاذ الرفاعي، ولكنه خيّب ظني، فلم أختلف معه قط، ولكم سافرت معه إلى آسيا وإلى أوروبا، وفي كل مرة أعود أكثر حباً وتقديراً، وإجلالاً له، الذي لم يغضبني مرة واحدة، بل ربما أغضبته مراراً، وفي كل مرة أشعر بالأسف لما بدر مني، وما زلت نادماً حتى الآن على إغضابي له).

ثم أخذ الكلمة عبد الفتاح أبو مدين، فقال: قبل أن أبدأ حديثي عن المحب، لابد أن أشير إلى حركة ما قبل أن أتحدث فأقول: فحفل التكريم الذي أقامه صاحب الاثنينية لصديق الجميع أديبنا الكبير الأستاذ عبد العزيز، وأتيح لي المشاركة فيه بكليمة تحدثت فيها عن علاقتي بالأديب النابه، رحمه الله، فقد مددت يدي لتناول المايكرفون، من أخي السيد علي فدعق، وقد كنت بجواره، غير أن الأستاذ باعطب هجم على المايكرفون وانتزعه من يدي بعنف لا أدب فيه ولا تقدير، ورغم أني في موقف كهذا لا أتسامح فيما أراه حقاً، ولكني آثرت الحسنى، فلم أقاوم ولم أجنح، وكان ينبغي على السيد باعطب أن لا يفعل فلا يقدم على ما جنح إليه، لأنا في مجلس أدب، والأدب سلوك قبل أن يكون ممارسة ولي ذراع، لأني أحق بالحديث قبل الباعطب من منطلقات شتى، لعل أولها قِدَم العلاقة بيننا، ثم إني أسن من باعطب، ثم أحقيتي في الجلوس وفق تسلسل المتحدثين، وكنت أستطيع أن أرفع صوتي وأقول لهذا المزاحم بلا حق: تأدب، اضطررت أن أذكر ذلك الموقف غير المهذب، لأنه إساءة، لذلك لم أنسه.

فلعل الصديق الأستاذ أحمد باعطب حين قال: مكره أخوك، يعني مكره على الخير، على معنى القول المأثور، يثاب المرء رغم أنفه، ولعلي أستشهد ببيت شوقي - رحمه الله -:

اختلاف النهار والليل ينسي

اذكرا لي الصبا وأيام أنسي (يتبع)

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244

جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة