Culture Magazine Monday  17/09/2007 G Issue 216
فضاءات
الأثنين 5 ,رمضان 1428   العدد  216
 

نحو تصميم سياسة ثقافية
محمد رضا نصر الله

 

 

قبل سنوات ثلاث، كان الملتقى الأول للمثقفين السعوديين، برعاية صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض، قد أنهى أعماله المنعقدة في مركز الملك فهد الثقافي بالرياض، من يوم الحادي عشر إلى يوم الثالث عشر من شعبان، بحضور قرابة ألف من عناصر المجتمع الثقافي على مختلف ألوان طيفه واهتماماته وجنسه، في مملكتنا الواسعة الأطراف.

وكان الهدف المركزي لهذا الملتقى الفريد من نوعه هو مداولة الشأن الثقافي، من قبل مبدعي نصوصه ومنتجي أفكاره.. بعدما انتهى الأمر الملكي الكريم بضم قطاع الثقافة إلى وزارة الإعلام، والبدء به في مسمى الوزارة تقديراً من القيادة الرشيدة لمكانة الثقافة في تاريخ الأمة، ودور المثقف في حياة المجتمع.

وإذ أمسى الملتقى ثمرة اجتماعات متوالية عقدتها الهيئة الاستشارية للثقافة، عصر خلالها أعضاؤها خلاصة أفكارهم وتجاربهم - وهم من أبرز خبراء التنمية الثقافية في المملكة - فإن الفضل هنا لابد أن يعزى إلى ذويه.. ومن كان غير معالي الدكتور فؤاد بن عبدالسلام الفارسي الوزير السابق، الذي فتح آفاق العمل والتعاون الخلاق بينه وبين الهيئة، داعماً جهودها حتى آخر يوم من عمر وزارته.. وخلفه من بعده معالي الأستاذ إياد أمين مدني، وقد جاء حاملاً سمعة بارزة، بعدما غمس إحدى يديه في محابر الصحافة، ووضع أخراها بين سطور الكتب.. لذلك كان تعويل الوسط الإعلامي والمجتمع الثقافي عليه تعويلاً طموحاً لا يحد.

غير أنه مع الأسف كان من نصيب الهيئة الاستشارية للثقافة اجتماع واحد وحيد معه، ثم قضي الأمر الذي كنا فيه نستفتي عقول المثقفين، ونتلمس مشاعر المبدعين.. حول الصيغة المثلى لتحويل ما انتهى إليه الملتقى الأول للمثقفين السعوديين، من ورقات عمل وتوصيات إجرائية، إلى استراتيجية وطنية للثقافة قادرة على صياغة هياكل إدارية جديدة مدعمة باعتمادات مالية، وقد أصبحت الثقافة قسيماً للإعلام في الوزارة.. وذلك لتحقيق تطلعات المثقفين والأدباء والفنانين السعوديين من الجنسين، في قيادة نهضة ثقافية توازي مستوى النمو المادي المتقدم، وتتفاعل مع تفاصيل الحراك الاجتماعي في مجتمعنا السعودي الجديد.

هنا ينبغي وقفة أمام خطط التنمية، التي لم تتنبه مع الأسف حتى يومنا هذا إلى دور الثقافة الأصيل في ردم الفجوة الثقافية بين عملية التنمية والمجتمع، منذ انطلقت قبل قرابة أربعين عاماً.. وها نحن نمخر عباب خطة التنمية الثامنة، حيث مايزال الاهتمام كبيراً بالجانب المادي للتنمية، بينما الاهتمام بالثقافة وسيلة مثلى نحو الاستثمار في الإنسان مايزال ضعيفاً.. وهو ما يجعل قيم الاستهلاك والتسليع والربح السريع هي المهيمنة في ثقافتنا الاجتماعية.. وهو ما أدى مع عوامل أخرى إلى تراخي عضلة الولاء الوطني، وشيوع انتماءات وولاءات ضيقة، بسبب افتقار الأدبيات التنموية في المملكة إلى تصور استراتيجي خاص بالتنمية الثقافية، يحدد الوسائل والأهداف والبرامج وفق منظور وطني شامل.

إن ما أشارت إليه الخطة الثامنة في باب الأهداف والسياسات، حول تطوير النشاط الثقافي والإعلامي والارتقاء به، لا يتجاوز توصيات هامشية تتعلق بإنتاج برامج تلفازية وإعلامية، ودعوة المثقفين المتميزين للمشاركة فيها والتوسع في إنتاجها.. وهناك فقرة لا تتجاوز الكلمات الأربع تنص على الاهتمام بالأنشطة والمراكز الثقافية، إضافة إلى صياغات عامة حول تشجيع الحركة الفكرية وحرية الرأي والتشجيع على طباعة الكتب وترجمتها، أما في الأهداف العامة للخطة فإن الثقافة لم تحظَ سوى بكلمتين تنصان على الاهتمام بها ونشرها.. أي لم تفردها ولو بفقرة مخصوصة في الأسس الاستراتيجية للخطة.

إن إهمالنا هذا الجانب المركزي في تجارب الأمم المتقدمة والناهضة في عملية التنمية.. ينعكس على مستوى الاعتمادات المالية الهزيل، المخصصة للصرف على النشاط الثقافي.. فحسب علمي أنها لا تتجاوز خمسين مليون ريال.. بينما تخصص دولة محدودة الموارد هي تونس قرابة 1.5% من ميزانيتها للصرف على برامج وزارة تحمل اسم (وزارة الثقافة والمحافظة على التراث).. أما في مصر فكما أعلمني وزير ثقافتها قبل أربع سنوات أن وزارته تحصل على أكثر من مليار جنيه من ميزانية الدولة، إضافة إلى عوائد مالية مجزية تستحصل عليها من صندوق التنمية الثقافية، بوصف الثقافة في مصر قطاعاً منتجاً، تتأتى عوائده من مرتادي المتاحف والمسارح ودور السينما ودور النشر الحكومية والاستثمار في الصناعات الثقافية، إضافة إلى الإفادة من الاتفاقات الثقافية الدولية.

إن الدعوة إلى الاهتمام بالتنمية الثقافية على نحو منهجي جاد، هو ما جعلنا في الهيئة الاستشارية للثقافة قبل إلغائها.. أن نولي الاهتمام بقضية الثقافة في المملكة، بحسبانها تمثل ضرورة وطنية من الناحية الاستراتيجية، فهي تشكل الحزام الآمن للعملية التنموية وحركاتها الاجتماعية، حيث تتوقع الخطة الثامنة نمواً مطرداً في السكان، وتحديات نوعية سوف يواجهها الاقتصاد السعودي تتعلق برفع مستوى الكفاءة الإنتاجية والتنمية البشرية وتحسن القدرة التنافسية، ومناسبة المخرجات التعليمية.. هذا وغيره من مستتبعات الانضمام إلى منظمة التجارة الدولية، والانغمار في بحار الثورة المعلوماتية والمعرفية والفضائية، يحتم علينا مواجهة هذه التحديات بإجابات استباقية، تكمن في تفعيل برامج التنمية الثقافية العاملة على ضبط العلاقة الحرجة بين خصوصية مجتمعنا والانفتاح غير المسبوق على العالم، من خلال استراتيجية وطنية للثقافة، تراعي الحق التشريعي الذي كفله النظام الأساسي للحكم في هذا المجال، إذ نصت المادة التاسعة والعشرون منه على: (أن ترعى الدولة العلوم والآداب والثقافة وتعنى بتشجيع البحث العلمي وتصون التراث الإسلامي والعربي وتسهم في الحضارة العربية والإسلامية والإنسانية).

بعدما ذكرت.. ألا ترون أنه يستوجب على وزارة التخطيط والاقتصاد ووزارة الثقافة والإعلام معاً.. الانطلاق من الاستراتيجية الوطنية للثقافة التي أعدتها الهيئة الاستشارية للثقافة، والمطروحة للنقد والتحليل والحذف والإضافة والأخذ والرد أمام أنظاركم في هذا الاجتماع.. بل لنقل في الملتقى الثاني للمثقفين السعوديين الذي أوصى بانعقاده في جدة المثقفون والأدباء والفنانون السعوديون في ملتقاهم الأول، وقد حضره مع عدد وافر من الوزراء ومسؤولي الدولة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة اليوم بوصفه رئيساً لمؤسسة الفكر العربي.. ألا يستوجب بعد هذا الانطلاق من هذه الاستراتيجية نحو تصميم سياسة ثقافية تنطلق من الآتي:

1 - القيام بدراسة مسحية للواقع الثقافي للمعطيات التراثية، انسجاماً مع توقيع المملكة على اتفاقيات دولية تتعلق بالمحافظة على التراث الثقافي غير المادي، والآثار المطمورة تحت المياه، أو المهملة فوق اليابسة! هذا والمملكة بوصفها مهد اللغة والحضارة العربية قد شكلت على امتداد حقبها مرجعاً للحضارات التاريخية التي قامت في شمال الجزيرة العربية.. ومايزال يغفو بين رمالها الكثير من الكنوز الأثرية والأساطير والأشعار والإيقاعات والمنسوجات، مما يشكل الكشف عنها وإعادة إنتاجها عاملاً مهما في الاقتصادات الثقافية والسياحية.

2 - إعداد دراسات مفصلة عن قضايا ثقافية لها أهمية في تفعيل دور منتجي الأفكار والنصوص الإبداعية.. وصيانة حق المثقف في التعبير والتأليف، وتأكيد دوره في دفع عملية التنمية، وكذلك تطوير عمل المراة الاجتماعي والثقافي، وكذلك ثقافة الطفل، والاهتمام بالمسرح والسينما والفنون التعبيرية والشعبية، التي من شأنها العمل على فك حالة الاحتقان الاجتماعي، عبر إشاعة ثقافة البهجة المنضبطة لا المنفلتة بطبيعة الحال.

3 - إعداد مقترحات ودراسات بشأن إنشاء مؤسسات ثقافية جديدة، أو تحوير أو تطوير المؤسسات الثقافية القائمة.. كإنشاء مجلس أعلى للثقافة يضع الخطط ويصيغ السياسات، بوصف وكالتي الوزارة للشؤون الثقافية والعلاقات الدولية جهتين منفذتين.. ودمج الأندية الأدبية وفروع جمعيات الثقافة والفنون في مراكز ثقافية على امتداد مناطق المملكة، في مدنها وقراها، بما يحقق مطالب عناصر المجتمع الثقافي بكافة ألوانه المتعددة. وعلينا هنا.. أن نتذكر أن النسبة السكانية الغالبة اليوم في بلادنا هي من الشباب - بنين وبنات - مما يجعل من أمر إشراكهم في إدارة المؤسسات الثقافية حقاً مشروعاً لهم.. وهذا يقتضي تجاوز تجربة الأندية الأدبية التي فصلت قبل ثلاثين عاماً على مقاس أدبائنا السعوديين الرواد الراحلين، ومستوى أفكارهم وتصوراتهم، التي لم تعد محل اهتمام الجيل الجديد من الجنسين في المملكة.

4 - تنظيم الملتقيات واللقاءات الدورية مع المثقفين والأدباء والفنانين والمسرحيين والتشكيليين، بعد استكمال تشكيل جمعيات خاصة بهم، تعمل على تفهم قضاياهم ومطالبهم، وتكرار تجربة الملتقى الأول للمثقفين السعوديين في الرياض الذي تبنته الوزارة قبل سنوات بنجاح بعد انتقال القطاع الثقافي إليها.. فكان مؤملاً تبني الوزارة انعقاد ملتقى ثان في جدة وثالث في الدمام ورابع في أبها وخامس في الجوف.. ويمكن هنا إعادة إنتاج أسواق العرب القديمة عبر إقامة هذه الملتقيات في المواقع الجغرافية لأسواق العرب في بلادنا، وعرض إنتاج الصناعات والمنتوجات الثقافية فيها.

5 - إن هذا كله يقتضي توفير الاعتمادات المالية واختيار الناشطين والإداريين الثقافيين في هياكل إدارية تأخذ بأسلوب الوحدات الأفقية لا الرأسية.. وقبل ذلك صياغة التشريعات الثقافية.

بهذا يمكن صياغة ثقافة وطنية تعمل على بناء الإنسان والاستثمار فيه على نحو معرفي جاد، واقتصادي أمثل.. ثقافة وطنية تعزز مفهوم الولاء الوطني ومحاربة مظاهر الغلو والتعصب والإرهاب.. وتصحح مفاهيمنا الاقتصادية بالانتقال من اعتبار التسليع والاستهلاك هو المحرك للاقتصاد، إلى تعزيز قيم العمل والإنتاجية في المجتمع.. وبهكذا ثقافة وطنية يمكن دعم برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - هذا القائد الفذ - في الحوار الوطني والتواصل مع الآخر.. والانفتاح الرشيد على ثقافة العالم، بأقدام راسخة ضاربة في جذور تراثها العربي وعقيدتها الإسلامية.. حفظه الله وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز في قيادة مسيرة النهضة السعودية المباركة.

* أمين الهيئة الاستشارية للثقافة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة