Culture Magazine Monday  17/09/2007 G Issue 216
فضاءات
الأثنين 5 ,رمضان 1428   العدد  216
 
قصاصات من ذاكرة حصة«7»
(الوظيفة)
أميرة القحطاني

 

 

تقول صديقتي حصة:

أقنعني أحمد بالعودة إلى إدارتي، وبمجرد أن رأتني سهام أدخل إلى الممر المؤدي إلى مكاتبنا حتى أتت تركض باتجاهي: أنتِ وين؟ مديرنا قلب عليك الدنيا.. لو تدرين شو عمل بيوسف هزّأه قدام المديرين ورؤساء الأقسام والموظفين و....

وأثناء حديثها معي خرج المدير فجأة ووقف عند الباب، كان ينظر إلينا؛ ما جعل سهام تقطع إرسالها وتصمت. وصلنا وقبل أن أضع حقيبتي طلب مني الدخول إلى مكتبه، وأشار إلى السكرتيرة باستدعاء يوسف:

- أنا عاتب عليك يا حصة أولا طريقة دخولك مكتبي والموظفون متواجدون به خطأ وطريقة حديثك معي كانت خطأ.. قلت لك قبل هذه المرة أنتِ رئيسة قسم وهذا المنصب يتطلب منك أن تكوني على قدر من المسؤولية

- وأنا أقدر المسؤولية لكن.......

- ليس هناك شيء اسمه (لكن) الإنسان الذكي يزن الأمور في عقله قبل أن تصدر منه ردة فعل عشوائية

- تقصد أني غبية؟!!

- أقصد أنك متهورة ولا تعرفين ماذا تعني الدائرة الحكومية.. أنا وأنت والموظفون نخضع لقوانين صارمة تكون أحيانا كحد السيف لا ترحم أحدا، والذي يخطئ يدفع الثمن، ويوسف إذا كان غلطانا بالفعل سوف يعاقب لكن هناك قوانين إدارية لا نستطيع تجاوزها.

أردت إنهاء هذا النقاش لأنه لم يكن يعجبني فسألته: والمطلوب مني الآن؟

- يوسف في الخارج ويود الاعتذار والمطلوب منك قبول هذا الاعتذار ودون مناقشات جانبية وسأتصرف أنا معه فيما بعد وبطريقتي الخاصة.

- اوكي. قلتها بملل

طلب من سهام إدخاله. جلس قبالتي، ولم يكن باديا عليه الندم بل كان ينظر إلي بوقاحة ظاهرة ويتحدث بأسلوب فيه شيء من السخرية: سوري أختي حصة لم أكن اقصد الإساءة أنتِ انفعلتِ بشكل غير لائق ولم يكن هناك من داع لحشر أمي في الموضوع؟

- قاطعه مديري بشكل حازم وحاد وكان يخاطبني: يوسف يعتذر لك عما حدث ماذا تقولين؟

نظرت إلى يوسف وخاطبته بنفس الطريقة التي خاطبني بها: أقول إني قبلت اعتذارك يا أخ يوسف وبالمناسبة أنا اسمي حصة حمد آل ياس اعتقد أنك سمعت بهذه العائلة من قبل ويشرفني أن اعرف من أي العائلات أنت؟!!

لم يجبني بل نظر إلى المدير بغضب ونهض مسرعا باتجاه الباب.

هز مديري رأسه وعلق مبتسما بعد أن خرج يوسف زاده: لا تعزفي على هذه الأوتار يا حصة؟ الجماعة هنا اغلبهم على هذه الشاكلة وسياسة البلد تقول: المساواة ثم المساواة.

أضفت تعليقا على حديث السيد مديري وأنا أسير باتجاه مكتبي: لا توجد مشكلة كلنا مع المساواة لكن ليس على حسابنا.!

الآن ارتحت بعد أن ذكّرت يوسف بأنه متجنس وبأنني مواطنة أباً عن جد وبناء عليه يجب أن يعرف بأنني أحق منه بكل شيء في هذا البلد وخصوصا الوظائف. كان عليه أن يفكر مليون مرة قبل أن يطرح ذلك السؤال: (من وين جايبينها؟) وكان عليه أن يعرف بان اللحم البلدي مر!

هذا من أم هندية وهذا من أم فلبينية وذاك إيرانية وهذا متجنس حديثا وهؤلاء قديما وووو.. يا إلهي لم أكن أتوقع أن الدوائر الحكومية خليط من (مواطنين، غير مواطنين). في إحدى المرات سمعت مذيعة لبنانية وهي ملكة جمال سابقة تقول من خلال شاشة دبي وبغباء فاحش: (الزواج من جنسيات أجنبية وعربية بيعمل تعددية بالبلد وبيحسن النسل)!!. ولو لم تتصل بها إحدى السيدات في تلك اللحظة لذهبت إلى مبنى التلفزيون لأوضح لها بعض الأمور التي تجهلها عن هذه المنطقة: (لا تتحدثي باسم أهل البلد ولا تتحدثي في مواضيع لا تفقهي فيها شيئاً خليك في الماكياج والزينة.. الهوية ضاعت يا هانم والبلد راح يضيع إذا ظل الوضع على ما هو عليه).

المشكلة الحقيقية أن الإنسان ميال إلى أبناء جلدته، وهذه طبيعة البشر؛ لذا تجد أن كل متجنس (مسؤول) يقوم بتوظيف المتجنسين أمثاله والوحيد الذي يُدهس في هذه اللعبة كلها (المواطن).

لا يهم، المهم الآن أن أفرض أنا سيطرتي على قسمي وأن أعمل على تشعب هذا القسم ليصبح إدارة و... وأفرد عضلاتي على أعدائي.

طلبت من المدير أن يمنحني بعض الموظفين للعمل لديّ في القسم، وفاجأني بأن قال لي: لا. وهو صاحب وجهة نظر في هذا الأمر، حيث يقول: وأنتِ وش راح تعملين طول النهار؟ تتصفحين الإنترنت؟ أنتِ مسؤولة عن شؤون الموظفين، اتصلي برؤساء الأقسام الأخرى وحددي معهم زيارات لأقسامهم وناقشي الموظفين، إذا كانوا بحاجة إلى شيء دوّني ملاحظاتهم وحوليها إليّ برسالة رسمية بما ترينه مناسبا لهم. سألته بدهشة: ما أراه أنا مناسبا لهم؟!! أجابني: نعم ما ترينه أنت مناسبا لهم ألستِ أنت المسؤولة عن شؤونهم؟

لو تعلمون يا أساتذة ما هو شعوري تلك اللحظة؟ غرور الدنيا كله تلبسني.. كنت أمشي على الأرض ولا أشعر بها كأنني كنت أطير!

وضعت أمامي ورقة بها أسماء وأرقام رؤساء ومديري الأقسام وبدأت بالاتصال:

- معك رئيسة قسم شؤون الموظفين، أنا أقوم حاليا بجولة رسمية على الأقسام وأود معرفة الوقت الذي يناسبكم.

لم يفاجأ رؤساء الأقسام باتصالي، كان مديري العزيز قد أبلغهم بزيارتي الميمونة، لكنه لم يخبرني بذلك، سمعت عن هذا فيما بعد، وقد طلب منهم استقبالي بشكل لائق وعدم إثارتي عصبياً! وهذه الوصية الأخيرة لم يكن لها داع؛ فقد انتشرت حكايتي مع يوسف كانتشار النار في الهشيم، وانتشر معها خبر مفاده أنني امرأة لا يداس لها على طرف! جيد.. جيد هذا الخبر ولكن للموظفات رأي آخر.

أخذني سائق الدائرة إلى اقرب قسم للمكتب الرئيسي وهو لا يبعد كثيرا (عشر دقائق بالسيارة)، وكنت أتساءل: ماذا لو عرفت أمي أو إخوتي بركوبي مع سائق غريب وبدون مرافقة الخادمة؟!! الله يستر. قلتها بيني وبين نفسي وأنا أهم بالنزول من السيارة. استقبلني رئيس القسم (راشد) عند الباب الخارجي، وكانت على وجهه ابتسامة عريضة جدا: أهلا حصة.

امتعضت من طريقته في الترحيب التي لم تكن رسمية: أهلا بك. قلتها بتجهم.

- ألم تعرفيني؟

- عفوا؟

- أنا راشد.. راشد المهيري جاركم يا حصة هل ذاكرتك ضعيفة إلى هذه الدرجة؟ ألا تذكرين الدكان ومعاركنا هناك؟

بسعادة فائقة أجبته: رشووود يخرب بيتك كبرت وأصبحت رجلا.

- وأنتِ أيضا كبرت وعجزّت وإلى الآن لم تتزوجي؟

- أنا لا ينقصني جمال، لكن أتزوج من يا حسرة ليس لدينا أبناء جيران عليهم القيمة كلهم أبناء فقر وفاشلين دراسيا! هل يعلم موظفوك بأنك راسب في الثانوية العامة أربع مرات متتالية؟

وكنت اضحك بصوت عال؛ ما جعل موظفي القسم وموظفاته ينظرون إلينا باستغراب.

- اخفضي صوتك فضحتينا

- إذا هيا اعتذر وبسرعة.

أخذ يردد كلمة آسف حتى وصلنا إلى مكتبه. جلس قبالتي. تحدثنا طويلا عن ذكريات الطفولة، كانوا إخوة لي وكان راشد كثيرا ما يطلب من أمي عدم السماح لي بالذهاب إلى الدكان، وكانت تسمع كلامه رغم صغر سنه، لكنني كنت أذهب عندما أجد الفرصة المناسبة للزوغان.. حقيقة لا يوجد أجمل من دكان الحارة ومن الناس في تلك المرحلة.. الآن وبعد مرور 20 عاما على تلك الذكريات أصبح الكل ملوثا، لا أحد يستطيع الذهاب إلى أي مكان دون مرافق.

بعد ساعة من الحديث الشيق مع راشد طلب مني الجلوس على مكتبه، وكان فخماً، ثم أمر الموظفين بالدخول واحدا تلو الآخر، وكنت أنا أدون ملاحظاتهم واحتياجاتهم، والمشكلة الوحيدة التي واجهتني كانت مع الموظفات؛ كان أسلوبهن جافا يصل إلى حد الوقاحة:

(لا نريد شيئا! / لسنا بحاجة إلى وسيط / لدينا مديرون يلبون طلباتنا / لسنا بحاجة إلى من يهتم بشؤوننا / لالالالا)!!.

وكنت أنا متماسكة لم أحاول مضايقتهن وهذه ليست من شيمي ولكن مديري أوصاني بألا أفتعل المشكلات وأن أفكر جيدا قبل أن تكون لي ردة فعل.

جيد، قلتها لراشد وأنا أحمل أوراقي وأتجه إلى السيارة، وقد كان يرافقني وقبل أن افتح باب السيارة ناولني بطاقة كتب عليها اسمه وأرقام هواتفه. أخذت أفكر أثناء عودتي إلى الإدارة في الأسباب التي دفعت بتلك الموظفات إلى التعامل معي بهذه الطريقة الجافة؛ فأنا لم أسئ التصرف معهن ولا أعرفهن في الأصل ولا يعرفنني ثم إنني أتيت لمصلحتهن ولديهن خبر بهذا.. لا بد أن يكون هناك سبب ما وحتما سأعرفه في يوم من الأيام.

الغريب أن راشد يدافع عنهن ويمتدحن وينتظر مني أن أعمل وبكل جهد على ترقيتهن و.... وليته يعلم ماذا أخبئ لهن.. هل تعرفون الدبور الذي زن على خراب عشه؟ نعم توقعت أنكم تعرفونه. وصلت إلى مبنى الإدارة وكان مديري يخرج من باب المصعد، توقف وسألني وهو يبتسم: هاه كل شي تمام؟. أجبته بتذمر: سوف نتحدث عندما تعود.

جلست أكتب تقريري في انتظار السيد المدير، وبينما أنا كذلك أخذت سعاد تحوم حول جهاز الكمبيوتر أثناء اشتغالي على طباعة التقرير؛ ما جعلني أتوقف للحظات: خير يا سعاد هل أساعدك بشيء؟

- لا، لا شكرا مجرد زيارة عادية

حياك الله. قلتها ثم عدت لإكمال تقريري ثم خطر على بالي أن اسألها: ما هي مشكلة الموظفات في قسم راشد المهيري؟ أسلوبهن في التعامل سيئ جدا.

- لا أعرف ليس لدي فكره. ولم تسألني عن السبب.

أحسست بأنها على علم بما حدث لكنني لم اشك في شيء: هل تعلمين؟ سوف أجعلهن يدفعن ثمن تصرفهن الوقح معي.

- هاااااه كيف؟ وقد اقتربت مني أكثر

نظرت إليها وبابتسامة صفراء أجبتها: كل شيء في وقته حلو يا حلو. ( يتبع )

- دبي amerahj@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة