Culture Magazine Monday  17/09/2007 G Issue 216
فضاءات
الأثنين 5 ,رمضان 1428   العدد  216
 
حقيبة سفر
ميرا الكعبي

 

 

في اليوم التالي لوصولي إلى مقر الدراسة، أخذتني ربة الأسرة التي أقيم عندها بسيارتها إلى الجامعة، وهنالك تكفل المرشد بإرشادي إلى إنهاء الإجراءات مثل التسجيل لدى مكتب الطلاب الأجانب، والحصول على الجدول وشراء الكتب واستخراج البطاقة الشخصية، وإرشادي إلى المرافق الحيوية في الجامعة. وكان لي مع المسؤولة عن إصدار البطاقات الشخصية في الجامعة وقفة تستحق التأمل، وفي حقيقة الأمر كانت المسؤولة شخصية مختلفة عمن رأيت في الجامعة، فهي تبدو في منتصف الأربعينيات إلى الخمسينيات من العمر، الملفت فيها طريقة تبرجها ووضعها للمكياج تبدو كأنها خارجة من فيلم أمريكي قديم، هي متأنقة لكن أناقة متأخرة لعشرات السنوات وتضع طلاء أظافر أحمر فاقع اللون.

فما أن دخلت وأخذت بياناتي وطلبت مني الجلوس على المقعد أمام الكاميرا كي تلتقط صورتي الشخصية التي سترفق بالبطاقة، حتى طلبت مني أن أضحك للصورة! سبحان الله ذكرني حواري معها بقصة كنت قد كتبتها منذ سنوات ونشرتها في مجموعتي الأولى (جروح وطن وأناشيد قلم) بعنوان (ابتسم للصورة!) كنت قد كتبتها أثناء دراستي في المرحلة الثانوية، ولقد كانت أول قصة تنشر لي في مجلة الآداب اللبنانية قبل أن أنشرها في مجموعتي الأولى، وكانت فرحتي بنشرها هنالك لا توصف. وكانت تحكي موقفاً مشابهاً على الرغم من أن القصة كانت من وحي الخيال، ما كنت أظن بأنني بعد سنوات سوف أصبح في داخل القصة بشكل ما!

قالت لي: أضحكي للصورة. فاستنكرت هذا الطلب بالفور وقلت: هي صورة شخصية وليست صورة للذكرى كي ابتسم فيها؟! فقالت: أنت جميلة ولكي تبدو صورتك أجمل ابتسمي. حسناً حاولت أن ابتسم للصورة وفي واقع الأمر لا أعرف كيف ابتسمت خاصة أنني كنت قادمة في الأمس من رحلة طويلة شاقة، ولم أشعر بأن لدي رغبة في الابتسام، فظهرت ابتسامتي متقتضبة. فقالت: لماذا لم تضحكي، لا تبدو ابتسامتك هنا واضحة؟ فقلت لها باستنكار: لا أحد يضحك أو يبتسم في الصور الشخصية! وتذكرت صور جواز السفر والبطاقة الشخصية لدينا في حياتي لم أشاهد أحدهم قد ابتسم للصورة.

فأجابتني: هذه ثقافتكم، أما نحن هنا فلدينا الحرية، وليس لدينا ما نخاف منه، لذا نضحك في الصور الشخصية. لقد استغربت قولها عن الثقافة والحرية واقحامه بالصورة الشخصية وشعرت بالغيظ، لأنني فخورة وأعتز بثقافتي وأومن أنها جميلة! فقلت لها: لا شأن لثقافتي في الأمر، فأنا لا أريد أن أبدو في الصورة كالبلهاء فهي ليست صوراً فنية! هي فقط صور للاستعمال الرسمي! فقالت لي: بل ستبدين أجمل؟ حتى انظري.. ثم أخرجت لي صور بطاقات شخصية لطلاب آخرين في الجامعة، وكان حقاً ما تقول كلهم يضحكون في الصور وكانت صورهم جميلة. فأغاظني ذلك أكثر، فقلت حسناً سأضحك، وضحكت للصورة من الأعماق كي أبدو أجمل، فالتقطت لي الصورة وقالت لي تعالي انظري الفرق بين الصورتين على شاشة الكمبيوتر، وبالفعل لقد كانت صورتي وأنا أضحك أجمل، لكن الضحكة كانت فظيعة حتى أن وجهي يبدو كالذي سوف يتمزق من الضحك. لا زلت أحتفظ ببطاقتي الشخصية وكلما رأيتها ضحكت أكثر.

أما قصة (ابتسم للصورة!) كانت تحكي عن فتاة هاجرت منذ وقت طويل بعد حصولها على الشهادة الجامعية، لتعيش في الغربة من أجل العمل لمساعدة عائلتها، خلال أعياد الميلاد كانت تسير وحيدة في السوق فعرجت بالصدفة على محل تصوير فوتوغرافي، فخطرت لها الفكرة أن تصور صورة لتبعثها هدية إلى عائلتها التي لم تقابلها منذ وقت طويل، فتبدأ الحكاية حينما تجلس على المقعد أمام الكاميرا ويطلب منها المصور أن تبتسم، وفي كل مرة عند العد التنازلي للصورة تفشل. مما أثار حيرة المصور الذي اقتنع في النهاية أن يصورها بدون الابتسام، حتى حينما يحين العد التنازلي للصورة تنفجر في الضحك على نفسها من الأسى!!! فيغادر المصور المحل، ثم يرسل لها رسالة يفيدها علماً بأنه قرر أن يعتزل مهنة التصوير ويتخصص في دراسة الإنتربولوجيا للإنسان العربي!

بعد ذلك أخذتني السكرتيرة في المعهد إلى صفي، دخلت وقالت اليوم تنضم إليك طالبة جديدة من السعودية، كان الصف صغيراً وعدد الطلاب أقل من العشرة، فدخلت الصف وكان هنالك كرسي خالٍ في المقدمة جلست فيه، لكن ما أن دخلت حتى لاحظت بدأ الحديث من خلفي بين مجموعة طلاب وطالبات من آسيا بلغتهم الأم التي لم أكن أفهمها. فحدست أن الحديث عني بشكل أو بآخر، فالتفت بكل ثقة وصرامة وقلت لمن يجلس خلفي باللغة الإنجليزية، رجاءً لا تتحدث عني! وما أن قلت ذلك حتى صمتوا واندهشوا، فردت علي فتاة عرفت منها لاحقاً أنها من كوريا: You are very clever girl، فأجبتهم: أنتم هنا لتعلم اللغة، ولا أظن بأنكم ستتعلمونها وأنتم في الأغلب تتحدثون بلغتكم الأم، كما أنني الوحيدة بينكم أتحدث العربية ولا أفقه ما تقولون، حتى من باب اللباقة هذا غير جائز ولا قوانين الدراسة في المعهد تسمح بالحديث بلغة غير الإنجليزية، فاعتذرت وبررت أن أغلب الطلاب وخاصة طالب آخر معنا. يجد صعوبة كبيرة في الحديث بالإنجليزية لذلك يتحدثون بالآسيوية على الرغم من أنهم يفهمونها، ووعدوني بأنهم لن يتحدثوا في حضوري سوى الإنجليزية. وأنهم لم يكونوا يقصدون الحديث عني بسوء. مضت الأيام والتزم الصف بالحديث فقط بالإنجليزية احتراماً لرغبتي، حتى إنني في أوقات كثير أستمع وأنا أكتم ضحكة إلى جو وهو يكاد يتعثر بعد نطق كل كلمة إنجليزية وهو يتحدث إلى مواطنته لورا عن شؤون مختلفة!

- الولايات المتحدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة