عندما تسري العاطفة داخل الجسد.. تتلون جميع الأوردة بلون واحد، حالم
* لا ينتسب إلى أي شيء آخر سوى اللون نفسه!
* في ذلك اليوم.. وداخل قمرة طائرته الضخمة تحولت أنامله وهو يتفرس لون
* الحروف في تلك المجلة المحلية ليقرأ باهتمام بالغ محتوى تلك المقالة
* الجميلة إلى ما يشبه المفرزة.. تفرز الأسطر بحثاً عن شيء يريد أن يجده..
* ثم تنهّد فجأة وتمتم بأمنية غريبة.. لم يخطر له على بال أنها من الممكن
* أن تتحقق.. ولو في خياله.. وحتى لو كانت للحظة خاطفة.. تمتم بينه وبين
* نفسه بكلمات مبتورة لا يسمعها سوى قلبه: (ليتني ألتقيها)!
* كان من ضمن العبارات التي شهدت مولد خفقان قلبه: (أحبك.. حتى لو كان
* خيالي مترعاً بالحزن.. وأجدك بلسماً.. حتى وإن اغتالك في قلبي غيابك
* المستمر). من هنا بدأت العبارة تتوسل الاستقرار داخل جوفه؛ فسمح
* لها.. وأناخ ركابه.. وربما في تلك اللحظة قد هدّأ من سرعة طائرته فشعر
* المسافرون بذلك.. ولم يستفق سوى على تنبيهات مساعده..
* هل حقاً يعشق الإنسان من مجرد قراءة بسيطة لبعض سطور منهكة، وأحرف
* متعبه، وعنوان حزين.. وأحلام عمر باهتة.. واسم ربما كان وهمياً.. أو
* حتى مستعاراً؟
* نعم.. فالعشق لا يعرف مكاناً.. ولا زماناً.. ولا حتى عناوين لأشخاص محددة
* .. إنه يأتي كالمطر العطش لمعانقة الأرض الجائعة؛ فيلبسها اخضراراً..
* وابتسامات حالمة..
* في المطار كان ازدحام الناس شديداً بالرغم من أحلام العيون الحائرة
* ومع ذلك كان البحث مستمراً عن شبح كاتبة تلك السطور.. في تلك المجلة
* المحلية.. هل هي مع هؤلاء البشر الذين يتماوجون فيما بينهم، كلاً
* يحاول أن يسرع لقضاء احتياجات دنياهم المختلفة..؟ لا أعتقد.. فمن تكتب تلك
* الكلمات لا تستسيغ زحمة البشر ولا ضوضاءهم، من ترسم حزن البشر بين
* السطور.. لا يليق بها سوى الهدوء والجمال الذي تحتضنه روحها الشفافة
* يا الله.. ما أجمل أن يعشق الإنسان روحاً.. لا صورة لها
* .. ولا ملامح.. ما أجمل الأحلام وهي تزف الخيال مترعاً في نهر الشوق
* .. يكاد يغرق وهو يتلون خجلاً من ملاقاة من عشقه..
* في غرفته الكبيرة كان يشاهد طيفاً عائماً بين الحقيقة والخيال
* فقفز خائفاً يحاول أن يطرد أشباح باتت تؤرقه، وحاول أن يخرج
* نفسه من هذا الحصار؛ فاستدار برأسه نحو الشرفة لعله يجد ما يشغله، لكن
* الشرفة كانت هي الأخرى مليئة بالصور التي لا تزيده سوى هم وتفكير
* في الصباح.. حضر للمطار وهو نصف نائم، سأله مساعده: ألم تنم جيداً..
* أشار بيده.. أن دعني في حالي.. واستمرا نحو الطائرة يحمل كل منهما
* حقيبته.. وأسراره.. وجزءاً من بقية صبر كادا يفقدانها
* تتحول الخطوات إلى عناوين لبعض الممرات التي تفتقد الدليل لأصحابها
* بل تتعمد أحياناً أن تكون مبهمة؛ ليصبح معها أحدنا جاهلاً لما
* ينتظره..
* تقترب من صاحبنا خطوة ناعمة، تسأله باسمه: حضرة الكابتن، إلى أين
* أتجه بأوراقي؛ فهذه أول مرة أسافر فيها وحدي، ولا أعرف كيف أتصرف، ثم
* تبتسم خجله وتسكت عن الكلام؟
* يلتفت صاحبنا ومساعده نحو الصوت الناعم والهادئ والبريء: نعم (هكذا
* يجيبها).. هنا تتجهين.. أين أوراقك؟.. يأخذها برفق.. يقرأها بدهشة.. يتعجب
* .. يتراجع قليلاً عنها.. يرفع يده اليمنى عالياً.. كأنه يريد أن يمسح
* ضباباً كاد يسرق الرؤية من عينيه.. ثم يتلعثم.. ثم يخرج حرفاً ويئد
* الآخر داخل فيه.. ثم يسكت.. لكنه يتماسك.. ثم يوجه إليها سؤالاً
* غريباً.. لم تستطع الإجابة عنه: لماذا .. لماذا أنتِ بالذات تسألينني
* أنا بالذات..؟!
* في لحظاتنا المتعبة، والتي تتحقق فيها الأحلام، تتقهقر أفراحنا دهشة
* .. ويصبح لون الأيام غائماً.. ونحتار كيف نفرح..!
* في ذلك الممر الطويل.. المؤدي إلى الطائرة كان الوجوم مطبقاً على معظم
* الشفاه؛ فلا تسمع سوى صوت أقدام المسافرين وهم يجرّون مع حقائبهم
* .. أحلامهم.. وآمالهم.. وربما.. بعضاً من أحزانهم..
* في قمرة الطيار، كان السكوت رفيقاً للجميع.. الطائرة تهتز.. المدرج
* لا يتسع لكل هذا الكم الهائل من تمايل الطائرة.. حتى سارع المساعد، وأمسك
* بدفة القيادة .. وطلب أن يكون هو القائد.. فارتاح صاحبنا من تحمل
* المسؤولية في هذه الرحلة.. واتجه بكل استغرابه نحو مقاعد المسافرين
* .. كأنه يبحث عن شيء يفتقده.. كأنه يحاول أن يقنع نفسه بأنه لم يكن
* يحلم.. كأنه يريد أن يثبت لنفسه شيئاً.. تفحّص الوجوه بنهم.. بحث بين
* العيون بوجل.. كان يقدم قدماً ويؤخر أخرى.. لكنه لم يجد ما يبحث
* عنه.. فاستدار بعصبية: ربما هي هناك.. سأصعد بنفسي إلى هناك.. وأتمنى
* ألا تشاهدني تلك العيون التي طالما بحثت عنها.. لكنها تشاهده الآن..
* يقف أمامها مباشرة.. عيناها في عينيه.. تحتل الكرسي الأيمن.. في السطر
* الأول من مقاعد المسافرين.. يدها ممسكة بالعدد القديم من مجلتها
* القديمة.. قلمها يرتجف وهو ينزف الحبر الحزين على قارعة الأوراق
* الحيرى.. ويرسل التساؤلات تترى.. والتي تحمل بداخلها ألف معنى.. فيأتي
* جواب عينيه وهو يحمل ألف ألف مغزى.. وصوت الريح وهو يحملهما فوق السحاب
* كان له عنوان لا يتجزأ.. قد خط بالنار.. تعترف به جوانب قمرته.. ويعترف به
* قلبه الأسير لها.