Culture Magazine Monday  17/09/2007 G Issue 216
قراءات
الأثنين 5 ,رمضان 1428   العدد  216
 

هموم في مدار القلم
دراسة في الخطاب الثقافي لإبراهيم التركي
إنجي السعدني *

 

 

ما كنت أظن أن المثقف العربي المعاصر يمتلك تلك الآليات المنهجية الذهنية التي تجعله ناقداً (ثقافياً) بالمعنى الشامل إلى أن قرأت بعض الأعمال التي وصلت إلى صالون الأستاذ الدكتور غازي زين عوض الله الثقافي وأنا مكلفة بكتابة مقال عن هذا الصوت النادر في حياتنا الثقافية، وفي واقع الأمر كدت أعتذر عن فعل الكتابة اكتفاء بالمشاركة في فعل أهم من وجهة نظري ألا وهو القراءة ذاتها، لأن قراءة إبراهيم التركي ليست بالأمر الهين، إن قراءته تجربة ثقافية خطيرة مهما اختلفت معه أو رفضت بعض آرائه الصارمة التي قد تصيب بالاكتئاب والحسرة، ومرد ذلك أنه لا يعرف المجاملة ولا يتورع عن مواجهة قارئة بضربات موجعة على رأسه على أمل أن يفيق هذا القارئ ويعود إليه وعيه، وهذا سلاح ذو حدين حينما يستخدمه الكاتب في مجالات الفكر والثقافة، إن القارئ سيقف موقفين فإما أن يحسب للقلم الذي يرصد كل هذه السلبيات شجاعته ويتماهى معه وإما أن يرفض هذه النغمة الناقدة التي لا يستطيع التوقف عن الدق بالمطرقة الضخمة على سنديان الراحة التي يغط فوقها كثير من المتلقين للخطاب الثقافي والمنصرفين عنه.

وهناك شيء آخر ألا وهو نغمة جلد الذات التي يمارسها الأديب العربي اليوم في واقع الأمر لا تقدم ولا تؤخر، وأي شيء في أن نصر على رفض كثير من مظاهرنا الثقافية ونلقي باللوم على أنفسنا لدرجة أن القارئ لن يستطيع مواجهة الحياة بهذه الصورة التي تضخمت فيها السلبيات المرتبطة بواقعنا الثقافي العربي، والقارئ في حقيقة الأمر يريد أن يقدم له الكاتب الحلول، لأن هذا القارئ لم يستطع أن يتخلص من النمط التقليدي لمفهوم العلاقة الأبوية التي تربط القارئ والكاتب، فالقارئ هو التلميذ الذي يجلس متعلماً ومتلقياً من أستاذه الطيب المثقف الذي يلقنه درس اليوم لكي يفيد منه في حياته ويشارك في المنظومة الإيجابية لأمته ووطنه.

أستطيع القول إن مشاعر متباينة انتابتني وأنا أقرأ صورة جديدة للعلاقة بين القارئ والكاتب، صورة القارئ فيها ليس الابن والكاتب ليس الأب، صورة الكاتب لا يقول فيها أنا أعرف إذاً أنا موجود وأقود، الكاتب لم يعد وصيا على العقل الكلي الجمعي كما كان الحال أيام طه حسين والعقاد، أيام كان هناك من يمسك القلم ويحكم على الأفكار ويقبل هذا ويرفض ذاك، كان النموذج الثقافي للكاتب آنذاك هو الحكم الذي يقول الرأي الفصل، الرجل الذي يفتح الأبواب كي يدخل منها الأديب الحقيقي ويطرد من جنة الأدب والفكر الضعاف والذين لا يستحقون.

إبراهيم التركي يختلف عن هذا النمط تماماً، رغم أنه يعمد إلى التوثيق والتخصيص، فالبيانات في أعماله كاملة، إنه لم يفقد الحس التاريخي، لم يكتب معلومات لا يردها إلى أصولها، تواريخ ميلاد الأعلام وتواريخ وفياتهم وتواريخ صدور الأعمال، ورد الأعمال إلى أصحابها، رجل محقق ولكن وقته لا يضيع في التحقيق، وإنما في ربط كل ذلك معاً برؤية واسعة ونقد التجربة الإبداعية، بأسلوب يمكن القول إنه تفكيكي، نعم أفاد إبراهيم التركي من مناهج النقد الحديثة أيما إفادة وبصفة خاصة التفكيك وفكرة المعنى المؤجل، إن المعنى الأخير، أو المعنى الأصلي، أو المعنى المراد من النصوص، لا يأتي عند إبراهيم التركي، والكلمة الأخيرة في العلم لم تقل بعد، تلك فلسفته، أما رأيه فهو ليس الحكم، بل تشعر في كثير من الأحيان أن رأيه مؤجل، وأنه يتركك في منتصف الطريق لكي تعيد قراءة ما قاله بينك وبين نفسك وأن تستيعد كلماته وربما تعيد قراءة ما قاله بينك وبين نفسك وأن تستعيد كلماته وربما تنقدها، وتظل تقلب الأمر على كل الوجوه، وتشعر أن الأمر لم يحسم بعد، وأنه ليس الأب الذي يقول لك أحب هذا أو أكره ذلك، أو افعل هذا ولا تفعل ذاك، إنه يقول لك هناك من فعل كذا ويجب أن نعرف لماذا اتجه إلى ذلك وأن يحاول الوصول إلى النتائج التي أرادها وهل كانت هي التي يسعى إليها أم لا. هذه هي شخصية إبراهيم التركي الفكرية، كاتب مختلف وصادم ولا يفرض رأياً، بل إنه قد لا يطلب منك الموافقة على ما يقول والتصديق على أفكاره، إن القارئ عنده لا يملك ختم التوثيق، ويكفي أنه أثار في ذهن ذاك القارئ شيئاً ما حينما اطلع هذا القارئ على كلماته، ولكن إبراهيم التركي في الوقت نفسه يذكر كثيراً من الأحكام العامة بأسلوب سريع جداً أو موجز وتلغرافي دون أن يقدم الأسانيد على ما يقول وهذا ما يجعلك تراه شخصية متناقضة، ولكن هذا التناقض نفسه تراه يلحظه، إنه يدركه ببراعة ويحدد أسبابه بدقة، وأهم هذه الأسباب من وجهة نظره أنه ينتمي إلى جيل تعددت مصادره ومراجعه وأساتذته والتيارات الفكرية التي تمثل هؤلاء الأساتذة، لقد قرأ هذا الجيل لأناس من أقصي اليمين إلى أقصى اليسار وعاش تحولات غريبة على المستوى العالمي والعربي، ورأى بعينه قيام أفكار ومؤسسات وانهيار أخرى وانخداع بأصدقاء من ورق وكلام، جيل غريب لم يجد تناسقاً هارمونياً يجمع المعطيات التي تشكل منها فلم يستطع أن يهضم المطبخ الثقافي العالمي.

وقد يبدو ذلك حقيقياً في واقع الأمر من الناحية النظرية، ولكنه ليس حقيقياً من الناحية الفعلية لأن عقلية المثقف تهضم وتأخذ وترفض وتجادل وتحاور، هذه فعاليات حقيقية لكل ذات تعرف قواعد التكوين العقلي للنفس الإنسانية، وإبراهيم التركي يعرف ذلك، ولكنه يراوغ بالقلم في بعض الأحيان. يراوغ مراوغة اللاعب الماهر الذي يعرف الطريق إلى مرمى الخصم ويسجل فيه الأهداف... ولكننا نختلف معه في أسلوب المراوغة الجميلة هذا.. لأن كثيراً من المسائل الفكرية تحتاج إلى تقسيم... إلى حكم بالفعل.. ولأن هناك جيلاً تحت التكوين يبحث عن الأسانيد الذهنية التي تتيح له معرفة حقيقة عصر كامل لم يعشه ومعرفة المدى المتسع لعصر آخر يعيش فيه.

ومن وجهة نظرنا فإن الكاتب المعاصر المصدوم في واقعه الذي يعيد النظر في مرجعية زمن تكوينه ويقرأ من جديد ما وصله من آراء متضاربة حول أبطال وأحداث تعددت فيها الأقوال: يمر بمرحلة استعادة الذات.. تشكيل النفس ولكن إبراهيم التركي يقوم بذلك في بعض الأحيان على الورق إنه اشبه ب (الشيف) الذي يعد الطعام أمام (الزبائن) أمام رواد المطعم.. وعلى هؤلاء الرواد أن يتحملوا سخونة المناخ الذي تدور فيه عملية إعداد الطعام حتى يزدادوا استمتاعاً وقناعة بالوجبة الشهية.

وهناك شيء آخر ألا وهو أن الكاتب المثقف الذي يخاطب قارئاً ضمنياً متعدد الأشكال يكتب وفي ذهنه هذا التنوع لنموذج القارئ إنه حينما يصل إلى قمة الذهنية ويبتعد عن الرأي الفيصل تاركاً للمتلقي المشاركة، ولكنه أحيان أخرى يصدر الأحكام مؤثراً في قارئ يطلب الوجبة السريعة التي تقدمها له المنابر الصحفية.

قد تنتقد إبراهيم التركي في بعض الملامح التقنية الخاصة بمعالجاته الثقافية وقد تختلف معه كثيراً في بعض أحكامه العامة وترفض، وقد تنتظر منه أحياناً، الرأي الذي يراه في القضية، ولكن هذا كله لا ينفي أننا أمام كاتب مغامر من الطراز الأول يستطيع أن يثير القضايا المهمة وأن يناقش أموراً خطيرة ذات أبعاد سياسية واجتماعية وفكرية في واقعنا العربي وهذا ما يجعل إبراهيم التركي في حقيقة الأمر كاتبا ثقافياً، عاماً يفهم البعد الثقافي للكاتب فهماً واسعاً.

أما بالنسبة لرؤية إبراهيم التركي فيمكن القول بأنها متسعة ذات طابع ليبرالي يعضد التفاهم والحوار ومفهوم الاختلاف.. ولكن الأهم من ذلك أنه قادر على استيعاب الأسس الجمالية المختلفة للفنون المتعددة بحيث يستطيع أن يقيم حواراً بين أشكال التواصل الإنساني المختلفة، إنك حينما تقرأ هذا الرجل تعجب بكيفية ربطه بين الأدب والسينما، بين الفن والسياسة، بين الرواية والسيرة الذاتية، بين الشخصية في واقع الحياة والنموذج الأدبي في منطق الإبداع. ليس هذا فقط بل إنك حينما تقرأ ذاك الكاتب فإنك تستعيد قراءة أجيال مختلفة من المفكرين والأعلام. ستقرأ طه حسين، وروز اليوسف وإحسان عبدالقدوس وعبدالرحمن بدوي وسومرست موم وأحمد مطر.. ستقرأ النفري العربي ولوركا الإسباني.. ستقرأ حواراً حضارتا وجمالياً بين الفنون والأجيال. وسترى احتراماً خاصاً للفكر الحر وللمرأة بوجه خاص وترى رجلاً يجيد قراءة الصورة والكتاب مثلما يجيد قراءة وجوه الناس وإن خانة التوفيق في قراءاته لبعض أحداث التاريخ، وهو لهذا التعدد الجمالي والانفتاح الثقافي يقوم بدور مهم في تنمية الخطاب المعرفي لدى القارئ في منظومة التلقي العربي، وهذا العمل بلا شك يتميز بجانب كبير من الأهمية لأنه يعد منبراً معرفيا للقارئ.. كما أنه يقيم التواصل بين الفنون من جهة وبين حلقات الأجيال المختلفة من جهة أخرى فلا يحدث الانفصام بين التاريخ الثقافي والإبداعي المحلي والعربي والعالمي بل يحدث الارتباط الذي يجعل القارئ على وعي بمسيرة إبداع العقل الإنساني، أني سارت ركائبه. ولكني آخذ على إبراهيم التركي المبالغة في إظهار الثقافة.. إنه يستعرض ثقافته في أحيان ليست بالقليلة... أسماء مؤلفين ومخرجين وشعراء وفنانين ورجال سياسة وإدارة واقتصاد وفلاسفة وصوفية وكتاب مسرح ونقاد من كل حدب وصوب وعصر ومكان. لماذا كل ذلك؟ لماذا يحاول الكاتب المعاصر إيهام القارئ بأنه عالمي؟ وبأنه يعرف التاريخ جيداً؟ وبأنه يستوعب كل شيء؟ وما غايته من هذا الحشد المبالغ فيه لدرجة واضحة؟

من الممكن تثقيف القارئ والربط بين الفنون والأجيال ولكن إبراهيم التركي يبالغ كثيراً وبصفة خاصة في استحضار أعلام الفنون من العربي والأوروبي، والأمريكي ومحاولة الربط بين أدباء ومفكرين قد يكون الاختلاف هو أصل العلاقة بينهم.

وهذا ما أراه في كثير من كتابات المثقفين في الخليج العربي بوجه عام.. أظن أن المستقبل سيشهد تحولا في ذلك بحيث يصبح التركيز على القضية لا على أسماء الأعلام التي تشهد على ثقافة الكاتب، فلا تقاس الثقافة بالكم وإنما بالكيف، والكاتب ليس في حاجة إلى نزاع اعتراف من السياق المحيط به بأنه مثقف. إن هذه النزعة - لعمري- هي عقدة المثقف العربي. هي ظاهرة تحتاج إلى وقفة.. المثقف ليس وعاء يحمل الماء من كل نبع وإنما المثقف هو المطر.. هو النبع المستقبل الذي استوعب كل الأنهار والمحيطات وليس في حاجة إلى وضع (لافتة) تقول إنه فعل ذلك.. إنه قرأ للمعاصرين القدماء.. لسنا في حاجة إلى ثقافة الكم وإنما إلى ثقافة الرأي.

شيء آخر آخذه على إبراهيم التركي هو الإغراق في المجاز والبديع.. لا شك أن هذا الرجل يحمل قلب شاعر ونبض فنان، ولكنه يبالغ أيضاً في استعراض هذه الشاعرية في مقالات فكرية تحتاج إلى أسلوب معياري وإن كان هذا لا ينفي أن قراءة إبراهيم التركي متعة في حد ذاتها لأنه من كبار عشاق لغتنا العربية الجميلة.

وأستطيع القول بحق إن إبراهيم التركي يجيد اختيار عتباته النصية:

عناوين الكتب والمقالات، ولكنه في الوقت ذاته يتميز بقدرة غريبة وفذة على إتقان شعرية تأليف الكتاب بحيث يحدث التناسق بين الموضوعات والبداية والنهاية في انسجام هارموني، وسأقدم للقارئ الكريم نموذجاً ختامياً لشعرية النهايات في تأليف إبراهيم التركي وذلك من خلال نهاية كتابه (كيلا يؤرخ أيلول) يقول الرجل في آخر فقرة في الكتاب:

(علمونا حين كنا صغاراً أن الحي أبقى من الميت، وعرفنا نحن كبار أن الأمة منذ قرون وهي تفتش عن غد لا يجيء، وكنا ننشد في المدرسة): نحن الشباب لنا الغد ومجده المخلد) وبات أبناؤنا يستفهمون: أي غد..؟ وأي مجد...؟!... المستقبل حياة..!!

إنه في النهاية يربط بين الأزمنة والبشر وبين الجيل والجيل التالي له، ويزاوج بين الأسلوب العرضي والقصصي السردي. ويتساءل ويجيب.. ولكن أهم شيء أنه ختم في النهاية بكلمتين (المستقبل حياة) لقد أعاد فتح أفق النص أمام القارئ بعد تفكيك الواقع... وتلك ميزة أن تترك في الذهن جملة فيها التفاؤل ولكن فيها الفكر...وما معنى الحياة؟! وهل عاش الجيل الذي لم يصنع مستقبلاً؟! وكيف تصنع الأجيال التالية حياتها وهي تتواصل مع ميراث الماضي وأفقد الغد؟!

إن النهاية متفائلة. ولكنها تطرح التساؤلات...

* ورقة أعدت للدورة الخامسة عشرة لصالون «غازي عوض الله الثقافي»

القاهرة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة