Culture Magazine Monday  18/06/2007 G Issue 203
الملف
الأثنين 3 ,جمادى الثانية 1428   العدد  203
 

يوم أن غنّيت معك (باللبيني) يا أبا زهران
علي الدميني

 

 

(أبا زهران)، رغم كل الحجب التي تفصلنا، إلا أنني أعتقد بأنه يمكن لك أن تصغي، برهافتك المعروفة عنك إلى نبض مشاعر من عرفك فأحبك، أو قرأ لك فأعجب بك، أو تعرف عليك عن قرب فاستمتع بصحبتك.

أذكر يا صاحبي، أنك دخلت في عتمة صحية حجبتك عن تواصلنا معك، بينما ذهبت أنا بعدك إلى عتمة أخرى.. صحيح أن محبيك كانوا يزورونك، وصحيح أيضاً أن الحميمين من أصدقائي، كانوا يجدون الفرصة لزيارتي.. ولكن المصادفة والزمن والملابسات، لم تسعفني في تلك العتمة بتتبع أخبارك.. ولذا ظللت في قلبي بين حبلَي الرجاء والخوف.. معلقاً بين إمكانيتين، لا نعلم إلى أيهما سيهيئك القدر لتختار طريقك.

(أبا زهران)، ما زلنا في حالة وجود، فلنأمل بأن تشعّ روحك السمحة، وصدرك الرحب، للتواصل مع صدق ما نكتبه إليك، وأن نقصدك بهذه الكتابة، حيث تكون أنت بوصلة توجهها ومركز استقطابها.

(أبا زهران) عرفتُ (زهران) المكان والإنسان الذي ترعرعت أنت في أفيائه، قبل أن أشرف بمعرفتك، ولم تكن حميمية انفعالاتي بذلك الفضاء المكاني الواسع - مكاناً وإنساناً - وليدة سماع أو مجاورة، كما يحدث للكثيرين في الأزمنة البعيدة، حين كانت تفصل (زهران) عن (غامد) مسافات هائلة، وكأنهما بلدان أو كوكبان متجاوران، ولكن ما تسلل إلى أعماقي كان وليد معايشة، لما عرفته من أقربائي، أو فلنقل بشكل أكثر تحديداً، من أفراد عائلتي، الذين عاشوا في (زهران) سنين طويلة.

عرفت (زهران) من جدتي وأبي، وخالتي وعمتي، وابن عمي، الذين جعلوني أمتزج بالحياة مع ذكرياتهم، حين غادر جدي (أحمد الدميني) مسقط رأسه في (محضرة) غامد، ليستقر في (زهران) وأن يصبح واحداً من أفراد عدة قرى، أبرزها كان (الأطاولة) وأكثرها حميمية كان مقامه في قرية مجاورة لها اسمها (الريعة)، حيث صار فقيهاً للقرية، وإماماً لمسجدها، وقد أخذتني ذكريات العائلة عن (زهران)، لكي أحس بانتمائي الوجداني إلى ذلك المكان الذي عاشوا فيه،واستمتعوا بحياته الأكثر تسامحاً وتواداً، ومحبة، وامتزج كل ذلك بمصاهرات عائلية.

(أبا زهران) أعلم أنك قد خلعت على ابنك الأكبر اسم (زهران) اعتزازا بالمكان والإنسان، والأريحية، والكرم والشجاعة، وهو مثار تساؤل حول تكريس دلالة (المكان) واختلافه، ولكنني حين تعرفت عليك من خلال ما قرأته لك من كتب، وعبر ما لمسته بعد التعرف إليك، من سماحتك ونبلك، أنك لم تبسط على ابنك مسمى (زهران) كعلامة على التقوقع حول المكان والتسمية، وإنما ذهبت إلى ذلك منطلقاً من معانٍ أوسع، تتوسم فيها العلو عن النقائص، والاحتفاظ بصفات (الزهور) وروائحها العذبة، التي كنت أنت شبهاً بها، وراعياً لتفتحها، وساعياً في نشر عبيرها، في محيطك الخاص والعام.

ولذلك يا (أبا زهران)، كنت مثالاً للوفاء في سيرتك وكتاباتك، لمعاني المكان والإنسان في تلك المنطقة تحت خيمة الوطن، فحضر إنسان (منطقة الباحة) الإدارية، التي عايشتها، وأفنيت عمرك في رصد تفاصيلها، وإبداعاتها، وجمع وثائقها، والاحتفاء بشخصياتها المتميزة؛ من أجل تعزيز مساهمة ثقافة المكان في تغذية نسيج ثقافة الوطن المتنوعة والمتعددة ضمن نسق الوحدة الوطنية الشاملة، دون أن تغلب على أعمالك أية شبهة إقليمية، أو تعصبية، أو نعرة قبلية، أو ميول فردانية.

يا (أبا زهران)، لا يمكن لمن أكرمته الظروف، وهيأت له دوائر التماس اليومي معك، أن ينسى تلك الابتسامة الودودة، وذلك المناخ الدافئ الذي يشيعه صوتك الدافئ دائماً في من حوله، إلا أن يحتفظ لك بتميزك بأجمل الصفات الإنسانية، وأكرمها.

يا أبا زهران، بتواضع قلَّ مثيله، وبدأب هادئ ووقور، وبنكران ذات لا يكنى إلا بتواضع الباحثين، أنجزت أعمالك بدون ادعاء، أو ضجيج، وسجّلت في تلك الكتب تاريخاً اجتماعياً وجغرافياً (غامد وزهران السكان والمكان) وسياسياً (وثائق من التاريخ)، وموروثاً شعرياً (الموروثات الشعبية لغامد وزهران) وسواها، منتبهاً في وقت مبكر إلى ضرورة بدء مرحلة تدوين لما كاد أن يندثر من تاريخ وتراث منطقة (الباحة)، تذكرنا بجهود الباحثين الأوائل، في مرحلة التدوين المعروفة في بداية العصر العباسي، لمختلف العلوم والفنون، ومن أهمها تدوين الشعر.

يا (أبا زهران) حينما كنت مرغماً على البقاء في العتمة، حضرت بيننا في الحديث مع صديق (الضوء والعتمة) الدكتور عبدالله الحامد، فحدثني عن افتتانه بقريتكم (قرن ظبي)، إذ قادته الصدف لقضاء الصيف مع عائلته فيها، فأصبحَت بعد ذلك مستقراً صيفياً لهم، وقلت له: تلك من القرى المتميزة في منطقة الباحة؛ لأن جمال موقعها، وممكناتها الزراعية ساهمت في تبلور حياة أكثر رقياً وتحضراً، واشتهر أهلها بالتجارة، والتميز في حرفة جماليات (الخياطة)، وقلت لأبي بلال: هل تعلم أن جُلّ ملابس (عرائس) المنطقة، كانت تتم حياكتها يدوياً ثم (بمكنة الخياطة) فيما بعد، على أيدي متخصصين في هذا العمل من أهالي قرية (قرن ظبي)؟

أنس صديقي (الحامد) بهذه المعلومة، ولكنه استرسل في الحديث قائلاً: لقد تعرفت قبل السكن في تلك القرية على رجل فاضل، شديد الرقي والتهذيب، أسكنني مع عائلتي في بيت قريب إلى بيته، وحينما تعمقت معرفتي به فيما بعد، عرفت أنه الأستاذ (علي صالح السلوك) الباحث والناشط الاجتماعيّ.

قلت له (وصلت خير).. ذلك هو (أبو زهران)، الذي يشع ضوؤه في كل الأمكنة، ويتنسم عبيره كل من زار المنطقة أو اقترب من حالة التعرف على تاريخها وتراثها وشعرها الشعبي القديم..

مثلك كنت في عتمة أخرى يا (أبا زهران)، ولكنك لم تكن غائباً عن موقعك في قلبي، فكنت أبحث عنك في تذكر متعتي بلقائك، وتحفيزي لك بالإسراع في إصدار ما تجمّع لديك من وثائق اجتماعية وسياسية تركز على علاقة المنطقة بمن جاورها أو تعالقت معه من مناطق أو إمارات، من حكام وقادة وأمراء، وبما حدثتني عنه من مدونات تاريخ شعري طويل توافر لك.

كنت من جانبي أخشى عليه من الضياع حين وافت رواته المنية، وقلّ من يهتم بإنجاز مهمات جمعه، وإخراجه في كتاب. ولا يمكن أن أنسى دهشتي حين أبلغتني بأنه قد تجمّعت لديك - وفي غمار بحثك الطويل عن الموروث الشعري الشعبي للمنطقة - نصوص شعرية، مما كنا نسمع به ولا نجده مما يسمى بشعر (اللبيني).

وقد أشعلتني البهجة بذلك التوثيق لأن أسرّ لك، بأنه لو لم يتجمع لديك إلا بعض هذه النصوص لشعر (اللبيني) لكانت كافية لدفعك إلى طباعتها في كتاب منفرد؛ لأنك تعلم يا صاحبي، أننا كنا نصف حالة الشخص الذي أكرمته الظروف الزراعية بمحصول جيد من الحنطة، أو تزوج بامرأة جميلة، أو عاد بمبلغ مالي مناسب من خلال عمله في موسم الحج، بأنه (يغني باللبيني).. أي أنه يحلّق وحده في دائرة من السعادة والابتهاج، تقع فوق كل ما يمكن تخيله من نشوة وانشراح؛ لذا فقد رسخت في الذاكرة الجمعية حقيقة مفادها أنه لا يوجد شعر بهذا المسمى، وأنه مجرد حالات تخييلية تشبه، ما خلقته الأسطورة من وجود العنقاء أو الخِل الوفي.

يا صديقي، لا أكتمك بعض ما خالجني من تشكّك في مصداقية ما جمعته من تراث شعري، جراء ما اتصفت به من التأني والتمحيص، ونتيجة لما انطوت عليه شخصيتي من رغبة في رؤية الولادات المختلفة وهي تسير على أقدامها، ولكنني حين استلمت منك ذلك السفر الضخم الذي يقع في خمسة مجلدات، والموسوم ب(الموروثات الشعبية لغامد وزهران)، صرخت بكل ما أملكه من عاطفة: إنني أشاركك الغناء (باللبيني) يا أبا زهران!!

لم يكن ما أنجزته كتاباً، ولكنه سفر، حمل عبق الحياة البسيطة للناس، وتجليات التعبير الوجداني عن صبوات الشعراء، وانغماسهم في التفاعل الأكثر حرية مع تفاصيل العشق اليومي البسيط، بأسلوب جمالي متألق، لا يعرف قيمته إلا أمثالي من المسنين الذين عايشوا متعة التفاعل مع ذلك الإبداع الشعري الجميل، بما أشعرني دائماً بمسؤولية جمعه ونشره، رغم عدم قدرتي على ذلك، ولذا فقد احتفيت بمنجزك هذا، ولم أجد أبلغ تعبيراً من عنونة مقالتي عنه لجريدة (عكاظ) ب(بيّض الله وجهك يا أبا زهران).

يا (أبا زهران) لا أملك ما يسعفني في مناسبة كهذه للاستعانة بعدة الكتابة البحثية المناسبة لمقاربة إنجازاتك، التي لا يمكن لدارس تاريخ المكان والإنسان في (منطقة الباحة) إلا أن يتوقف أمامها، والاحتفاء بها، واعتمادها كمرجع لا يمكن تجاوزه، ولكنني اليوم في مناسبة احتفائنا بك وبإنجازاتك، ذهبت إلى ما يليق بتقدير جامعها أو مؤلفها، صديقاً وإنساناً وحضوراً قلَّ مثيله، راجياً من المولى عز وجلَّ أن يخرجك من عتمة غيابك، وأن يعيدك إلى بياض حضورك البهي والدائم، بين أهلك ومحبيك وقرائك.

- الدمام


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة