Culture Magazine Monday  18/06/2007 G Issue 203
الملف
الأثنين 3 ,جمادى الثانية 1428   العدد  203
 

أبو غامد وزهران
الرجل الذي أرفع لإجلاله يدي!
د. صالح زيّاد

 

 

أتخيل الأستاذ علي بن صالح السلّوك جبلاً أشم من جبال الباحة، أو حصناً من الحصون التي تؤشر في المنطقة على التأريخ والإنسان. وأعتقد أن مؤلفات الرجل وأعماله الإنسانية وسيرته الذاتية والعملية وموقع الثناء والتقدير والإعجاب الذي احتله على المستويات الرسمية والأهلية في المنطقة هو ما يحيله من شخص إلى رمز، ومن مؤلِّف أو موظف حكومي كغيره من المؤلفين والموظفين إلى فكرة وقيمة، وإلى حس ومعنى. لكن لماذا يكون (جبلاً) أو (حصناً)؟!

هل للجبل والحصن أن يختصرا الإشارة إليه؟ وأي معنى هذا الذي لا تختصره إلا رمزية الجبل والحصن؟!

هناك وجهان للحديث عن السلّوك، أحدهما معرفي والآخر إنساني، تحيلهما هذه الرمزية إلى وجه واحد، بالمعنى الذي لا يتجاور فيه المعرفي والإنساني، أو العقل والقلب، فقط، وإنما يغدو أحدهما الآخر ويتماهى فيه، فتصير المعرفة بحثاً في جغرافيا يصنعها الإنسان ليكون بها تاريخاً ومأثورات شعبية ووثائق يفيض اكتشافها وجمعها وتركيبها بمعاني الوطنية والإنسانية المضفورة بدلالات الرسوخ والصمود الزمني تماماً كما هي جبال السروات التي روض السرويون صعبها ووعورتها لبساتين الكروم والرمان ومدرجات القمح والذرة منذ عهود سحيقة، وحموها بالحصون والمراقب وبالأحلاف والمعاهدات والقواعد ولأعراف القبلية التي لا تنفصل في معناها الثقافي الاجتماعي عن فنون الرقص والغناء والأمثال والأشعار والحكايا والأزياء... من حيث الانطواء على دلالة الرغبة في الحياة ومعاناتها وصناعة وعيها!

أن يكرس علي السلّوك جهده التأليفي في جغرافيا غامد وزهران وتاريخها ومأثوراتها يعني أنه يستبطن وعياً يجاوز المعرفة المجردة أو يجاوز المصادفة المجانية والتلقائية إلى الإرادة بما تعنيه من قصد وتصميم، وبما تؤشر عليه من فهم وفلسفة، وبما تترامى إليه من أهداف. فدراسة المكان، من الوجهة الإنسانية، أي دراسته جغرافياً وتاريخياً وثقافياً واجتماعياً، تحيل سكونه إلى حركة، وجموده إلى حياة، وفوضاه إلى نظام.

المكان بلا إنسان هو فضاء بلا زمن، وكينونة بلا وجود، وشكل بلا معنى. زمنية المكان ووجوديته ومعناه مرتبطة بالإنسان الذي ينبثق بتلاقيه مع المكان التاريخ والثقافة والمجتمع. ومن ثم يغدو التأليف في أي منها، باكتشافه وجمعه ودراسته، عملاً ثميناً من وجهة وطنية وإنسانية، ومن وجهة معرفية؛ فالمكان الموحش والغريب هو مكان مجهول ومظلم لا تضيئه الدراسة ولا يحيط به الوعي، والتأليف والتدوين والدراسة هي - دوماً - تزمين يخرج به الموضوع من لحظته العابرة!. لكن علي السلّوك - أيضاً - ليس مجرد مؤلف انقطع للقراءة والكتابة، وأكب على رؤية الحياة ووعيها من خلال الكتب. بل يمكن النظر إليه بوصفه قائداً اجتماعياً يجاوز، بإسهامه ودلالته على ما ينهض بالواقع من الإصلاح والبر والإحسان، الحدود الوظيفية الرسمية التي كانت هي الأخرى محل الثناء والمديح. فقد كان حفياً بالعمل التطوعي الذي يشارك التأليف والكتابة في الصدور والتدفق من حس الفردية من حيث هي أعمال اختيارية تمليها الحرية لا الضرورة، وهي من ثم ناتج فردية اجتماعية لا أنانية، وغيرية لا ذاتية. ويكفي أن نسجل، هنا، مبادرته المبكرة، بحسابات المنطقة، إلى تأسيس جمعية تعاونية في قريته (قرن ظبي) عام 1389هـ وإلى تأسيس الجمعية الخيرية بقرن ظبي عام 1398هـ ورئاسته لمجلس إدارتيهما، ومشاركته في تأسيس الجمعية الخيرية بالباحة، وقد استطاع بذلك أن يوجه العمل الاجتماعي بنزاهة وصدقية، وأن يسهم في إخراجه إلى صفة المؤسسة بما تعنيه من قواعد وحيادية ومحاسبة ما يزل العمل الخيري الشعبي يطمح بها إلى ما يوطد ثقته واطمئنانه في بلوغ إحسانه وصدقاته وجهده التطوعي وجوهه المستحقة. وأحسب أن دلالة العمل الخيري على المروءة والإنسانية هو الوجه الآخر من دلالته على صفة الحيوية التي تمتد ببيولوجيا الكائن إلى فكره وعمله، فيغدو الفكر والفعل لدى بعض الشخصيات أداة إنتاج وتوليد بالمعنى الذي يثمن الحياة وينفتح عليها. وليس علي السلّوك إلا أحد هؤلاء الذين امتلأوا بمعنى الحياة وحسها فغدا فكره وفعله توليداً مستمراً للحياة في أوصال الثقافة والمجتمع. وبعيداً عن دوره التأسيسي للفعل الثقافي المؤسسي في منطقة الباحة من خلال إمارة المنطقة والنادي الأدبي وجمعية الثقافة والفنون ونحوها، وهو دور في الصميم من معنى الإرادة لتوليد الحياة وإرعاش شريانها باحتضان المواهب وفتح نوافذ النور والوعي والحس، فإن مؤلفاته قمينة بأن تستعير لمدلول مادتها وموضوعاتها شكل الشجرة وبنيتها الحيوية بجذورها الدالة على الرسوخ والامتداد في الأعماق وجذعها الذي تتوحد فيه كينونتها لتذهب في الأعالي إلى فروع تتفرع وتتفرع وأوراق تحكي بخضرتها وطراوتها معنى الغنى بالحياة والبهجة بها. ففي كتابه (غامد وزهران: السكان والمكان) يبدو الالتفات إلى الماضي وجهاً للدلالة على الحاضر. فأول مباحث الكتاب مقسوم إلى فصلين، يتحدث في الأول عن نسب غامد كما جاء في كتب الأنساب، وفي الثاني عن نسب زهران. ثم ينتقل في المبحث الثاني ليعرض مواطن غامد وفروعها في الحاضر، ويصنع مثل ذلك عن زهران. ويبدو الاهتمام، بعدئذ، مركزاً على الشخصيات في دوائر فردية بالمعنى الذي يترامى إلى مدلول الفردية من حيث هي إرادة وموقف ومن حيث هي تصور وفهم أو موهبة وإنتاج. وهو المدار الذي يغني المجتمعات ويؤثثها بالحياة التي تتضاءل حين يفقد الفرد اسمه وامتيازه، فيتحدث في أربعة فصول عن مشاهير غامد وزهران في التاريخ بادئاً بمشاهير غامد في الجاهلية وصدر الإسلام، ثم مشاهير زهران في الفترة نفسها، ويعرض في الفصلين الباقيين مشاهير القبيلتين من القرن الثاني عشر إلى أواخر القرن الرابع عشر، ويختم الكتاب بمبحث من فصلين يخصصهما للتاريخ السياسي الحديث، وفي أولهما يلخص تاريخ المنطقة قبل توحيد المملكة، وفي الثاني تاريخها في عصر توحيد المملكة، لتغدو فرعاً من جذع الشجرة التي ترسل جذورها في الماضي التاريخي العربي والإسلامي مستمدة مقومات وحدتها ومستقبلها أي دلالة الحيوية التي تغدو بها كائناً حياً تسره الحياة وتعني له الوجود الذي به يعي ذاته وكينونته.

ولأن التاريخ لا ينفصل عن الجغرافيا في المدلول الذي يستحيل به الزمن من التجريدي إلى الواقع الملموس في شواهد الحس وآثاره المادية، فإن التأريخ لغامد وزهران لا يكتمل معرفياً ووجدانياً - في نظره - إلا بالجغرافيا التي سكنوها لتنفعل بالتاريخ الإنساني، وتخرج بتسمية جبالها ووديانها وقراها وطرقها وآبارها ومزارعها ومراعيها... إلخ من مكان نكرة، أو بالأحرى لا مكان، إلى مكان مسمى بالأسماء التي تشهد على التاريخ بالقدر الذي يشهد عليها التاريخ. فيجيء، هنا، كتابه (المعجم الجغرافي لبلاد غامد وزهران) جامعاً أكثر من 800 تعريف جغرافي لأسماء المواضع المختلفة، مع حديث مستفيض عن المناخ، والحدود الإدارية، وأحوال التعليم والزراعة والمواصلات والصحة... إلخ.

وفي تحقيق وتدقيق وإحاطة وشمول بحيث لم يكد يغفل مكاناً يستحق الذكر في المنطقة، مع ضبطه لفظياً، وذكر ما يتصل به وما امتاز به عن غيره والمسافات التي تفصله عن غيره من المواضع، والإشارة إلى ما ورد عن المتقدمين في ذكره وتصحيح أوهامهم. وقد كان - هكذا - موضع ثناء الشيخ حمد الجاسر رحمه الله. ومن هذا المنظور التوثيقي الدقيق يأتي كتابه (وثائق من التاريخ) ليمثل مادة ثمينة للدراسات الثقافية والسسيوثقافية مثلما هو كنز مخبوء للمؤرخين والآثاريين. ويقع في أربعة أقسام، يضم أولها نماذج من الوثائق والمعاهدات والاتفاقيات والأحلاف بين القبائل والقرى، ويعرض الثاني وثائق الأحكام والصلح التي كان يتم فيها حل النزاعات القبلية والفردية ونماذج من المبايعات (الحجج)، ويشتمل الثالث على نماذج من وثائق المراسلات من الحكام إلى المشايخ والقضاة والأعيان، أما القسم الرابع فيخصصه لنماذج من وثائق الزكوات والجهاد قبل عام 1338هـ، وصور من وثائق تأسيس أول إمارة في العهد السعودي لغامد وزهران عام 1353هـ. وليس كتابه (الموروثات الشعبية لغامد وزهران) إلا الذروة التي تكتمل بها مؤلفاته عن غامد وزهران، من ذات المنظور التوثيقي الذي تستحيل فيه الفنون والمرويات الشفهية إلى وثيقة عن الإنسان والثقافة والتاريخ، تماماً كما هو المكان والزمان، أو الجغرافيا والتاريخ، وقد أضحت علامات شاهدة على إنسان فاعل يصطخب بالحياة ويندفع بها قدماً منذ زمن سحيق، وكأن تعب التضاريس ووعورة الزمن أحياناً لا تحجزه عن رعشة غناء تهدهد الإعياء، وأحلام حكاية بفارس يتخطى الحزن والوعورة والصمت. أبا زهران، آن لقامة (شدا) العتيدة أن تنحني لتحيتك!

- الرياض zayyad62@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة