Culture Magazine Monday  18/06/2007 G Issue 203
فضاءات
الأثنين 3 ,جمادى الثانية 1428   العدد  203
 

بانوراما
عبدالله الجفري

 

 

*كثيراً ما كنت أتوقف عند (الكلمة - الموقف) التي تبلورت من خلال عطاءات الكاتب الراحل (أحمد بهاء الدين) رحمه الله... وبانتمائه العربي الأصيل.

كان يخوض أحداث أمته المرهقة في كل مرة، ويخرج برؤية دقيقة أو حزينة أو مؤلمة من تحت السحب الداكنة التي تنشرها السياسة وهي تأخذ كاتباً أصيلاً إلى الجراح العربية، وتطوح به في دوامات من القلق ومن النقائض، وترميه بعيداً عن فعل الكلمة التي تريح النفس، وتجدد صفاءها!

وتوقفي عند (الكلمة - الموقف) في يوميات الأستاذ (بهاء الدين) - رحمه الله - التي كان ينشرها في (الأهرام)، وفي مقالاته العميقة: كان يمثل معاناة الإنسان العربي الذي يعايش عصر الصواريخ، والقنابل العنقودية، والانشطارية، والكيميائية... عصر العنف، والدماء، وتكريس الخوف في نفسية كل شعب يستنهض بكفاحه: إصراره على الحرية، والكرامة، والاستقلال.

وقد صوَّر مادية العصر الموغلة في مشاعر الإنسان وطموحاته، وهو الذي كتب في رثاء الشاعر (أمل دنقل) يوم وفاته، تلك العبارة التي فجَّرت (شاعرية) أحمد بهاء الدين... فكأنه - يومها - لم يكن يسطر نعياً لشاعر فحسب، بل كان يكتب نعياً للشعر عامة، أو للمشاعر الإنسانية.. يومها أورد عبارة (بول هازار) القائلة: هذا زمن بلا شعر!!

وذلك يعني: أن روابط الكاتب بأحزان مجتمعة، وبهمومه، وبمبدع حرف مثله... تتوهج شعوراً، وتضيء عشقاً، عندما تلتحم المعاناة بين الكاتب ومن فقده، أو ما فقده... فتأتي صوره المكتوبة بالحرف، وتحليلاته: لوحات توزعت فيها الألوان، والإضاءة!

* لذلك - أيضاً - وجدتني أسيراً لكلمات خرجت من (الهم) السياسي في فكر (أحمد بهاء الدين)، واغتسلت في فيض المشاعر الإنسانية داخله.. ومن خزائنه استدعى قوله:

* ا لإنسان صار مسماراً في آلة... أو رقماً في كومبيوتر!

* وعن شعوره بالفقد، حين وفاة (أمل دنقل).. قال: كان أمل دنقل أحد العصافير النادرة في حديقة غير موجودة، لأن كل شيء تحول إلى إسفلت، ومداخن، وشقاء إنساني من أجل الرزق!

* وقال بلا انتهاء: أنت تشعر بالحاجة إلى زهرة يانعة وأثيرها الروحي وأنت في الصحراء، أكثر مما تشعر بهذه الحاجة وأنت في حقل أخضر!

***

كُتَّاب كلمة العقل:

* لقد فقدت الصحافة العربية، والكلمة العربية الحرة قبل سنوات قريبة: رؤية وفكر أحمد بهاء الدين، ويعاودنا اليوم نفس الشعور بالفقد.. فقد كان أحد كتَّاب كلمة العقل القلائل الذي نفتقدهم اليوم.. وهو لنا - كقراء - يمثل: الزهرة اليانعة في صحراء الهم العربي؟!

* وفي هذا الإسفاف وتدني رسالة الصحافة وبيع المبادئ نتذكر: قلم، وفكر، وحوار الكاتب السياسي المميز - أحمد بهاء الدين، رحمه الله... فصار التحليل السياسي، والفكر العربي: يشكوان هذه الأيام من الشوائب (العلِّيق) التي تمددت واستشرت في ادعائها للفكر السياسي، وتكاثرت حتى تكاد تطغى على (كتَّاب) يمتازون بطرحهم المتجدد، ويقفون على قاعدة الفكر السياسي العربي بحق!

ولاشك في أن غياب - أحمد بهاء الدين: (الأستاذ) بحق وليس ادعاء (!!) جعلنا نشعر ونرى: أن ركائز هامة في التحليل السياسي، وفي الفكر العربي: قد طوحتت بها الغربة في هذا الصخب والتدافع والادعاء، وألجمتها (نطنطات) البغاث الذي نراه يستنسر في ساحة الرأي العام!!

* إن الكثير من الذين كتبوا عنه أو أشاروا إلى كتاباته.. اختاروا أن يصفوه بهذه الكلمات: - الكاتب الصحافي، والمفكر السياسي.... الحر!!

ويوم كانت الصحافة (مهنتي).. كنت أحاور - أحمد بهاء الدين عن وجهه الآخر من خلال أفكاره، وقيمه، ومبادئه.. فسألته:

هل بلغْتَ زمن الحقيقة، أم مازلت تتخطى أبواب الأسئلة؟!

فأجابني يومها: (بالنسبة لحكمة الحياة، وبالنسبة لعالمنا العربي.. أعتقد أنني بلغت زمن الحقيقة.

ومع الأسف بالنسبة لحركة العالم الواسع من حولنا، مازلت أتخطى أبواب الأسئلة، لا سعياً وراءها، ولكن لأن العصر يهجم علينا كل يوم بعشرات الأسئلة.

ولأنه تميز بفكره السياسي، وبطرحه الواقعي - شديد المباشرة للحدث. فقد سألته:

كيف يصير الوعي الحضاري هو نفسه وعياً سياسياً؟!

أجابني يومها: الوعي الحضاري لا يتم بدون وعي سياسي.. لأن السياسة من أهم أدوات الحضارة ووسائلها، كما أن مستوى السياسة من أهم (نتائج) الحضارة أيضاً.

***

أشياء غير الخوف:

* أحمد بهاء الدين - رحمه الله - تتلمذ على فكره، وعلى انتمائه القومي، وعلى خبرته الصحافية: جيل من أنحاء الوطن العربي، وليس في مصر وحدها.. وواصل جهاده بالقلم حتى مات - عقلاً وفكراً منذ إصابته بنزيف في المخ عام 1989م، ومات جسداً ووجوداً بيننا: يوم السبت24-8-1996م.

وفي مقدمة كتابه (اهتمامات عربية)، قال عنه أحد تلامذته في روز اليوسف - لويس جريس:

لقد ارتبطت حياتي الفكرية ومواقفي القومية بما يكتبه أحمد بهاء الدين.

ويوم طلبت منه الحوار عن (الوجه الآخر) له.. كنت أهدف بتلك المحاولة إلى: تجاوز الصعوبة التي نحس بها أحياناً عندما يكون (بين إنسان حياة الديب أو الكاتب الأديب، وإنسان فكره وثقافته ووعيه: حاجز من نوع ما قد لا يراه ويلامسه إلا الكاتب نفسه أو أقرب المقربين إليه، أو من يملكون قدرة الاستقراء الشفاف للحدود)!!

وقد تكون لدينا ثمة اكتشافات، بعضها مدهش، وبعضها الآخر أساسه موجود في داخلنا.

لذلك عندما سألته: ما هو مصدر خوفك؟!

أجابني: (أنا بطبيعتي قلق وغير مطمئن بشكل مبهم.. وهي أشياء غير الخوف، ولا أذكر مَنْ قال: إن الجهل أغلى ترف، والمعرفة لا تجلب إلا الخوف!!

ذلك أن الإنسان يخاف بقدر ما يعرف ويفهم ويقرأ)!؟

***

المفكر السياسي البارز:

* لقد كان (أحمد بهاء الدين): يمثل المفكر السياسي البارز واللافت.

وكان يتفوق على محمد حسنين هيكل بحرية فكره الذي لا ينتمي إلى نظام سياسي أو مرحلة تاريخية، وإن كان (هيكل) أيضاً يؤكد اعتزازه هو بحرية تحليله للحدث السياسي!

وإذا تلفتنا إلى واقع (العقل العربي) اليوم.. فإن هذا المفكر السياسي يعتبر العقل العربي في غيبة عن الوعي، والأهم أنه أحياناً يعتبر الغياب عن الوعي: مذهباً فكرياً!!

* أما وجدان (أحمد بهاء الدين).. فقد همس لي عنه من خلال ما كان يسترخي لسماعه: ألف ليلة وليلة لأم كلثوم، وشكل تاني حبك أنت لنجاة الصغيرة، والليالي لعبدالحليم حافظ، ويا بو العيون السود لمحمد عبدالمطلب.. وكلها ذكرياته، أو لها ذكريات في حياته.

*رحم الله أحمد بهاء الدين

عندما مات في عزلة المرض، لم يجدوا من يملأ (قامة) عموده اليومي في الأهرام كبديل.

وعندما مات منحسراً عن الدنيا.. بقينا نفتش من بعده كثيراً عن مفكر سياسي كان يخاف على جيل المستقبل العربي... لأنه رأى آفاقه ضيقة: ملبدة بالغيوم، حافلة بصنوف القمع النفسي والفكري!!

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5717» ثم أرسلها إلى الكود 82244

جدة a_aljifri@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة