Culture Magazine Monday  18/06/2007 G Issue 203
فضاءات
الأثنين 3 ,جمادى الثانية 1428   العدد  203
 

رسائل مفتوحة إلى الغذامي«2-2»
موت البلاغة!.. فيك الخصام..!!
د. لؤي علي خليل

 

 

الدعامة الأخرى التي يستند إليها القول بموت البلاغة هي الاعتقاد بأن البلاغة العربية لم تطور إجراءاتها، بحيث تصلح لمقاربة النص الحديث!! وقد أشار الغذامي إلى مثل ذلك في مؤتمر البتراء الأخير الخاص باستقبال النظرية النقدية الغربية، حين سألني في حوار دار بيني وبينه: ما الذي يستفيده الدارس اليوم حين يتم دراسة البلاغة ويشرع بوجهه نحو النص الحديث؟

والحق أن هذه الدعوى ليست نتيجةً فرضتها تحولات في بنية الثقافة العربية الإسلامية، أو في النصوص الإبداعية التي اعتمدت الثقافة العربية الإسلامية حاضناً لها، بل هي دعوى مستوردة، شأنها شأن كثير من مناهجنا وإجراءاتنا النقدية الحديثة، وهذا ما يجعلنا نتوقف ملياً قبل أن نغامر في تبنيها، فما يصلح للثقافة الغربية لا يصلح كله للثقافة العربية الإسلامية، وإذا كنا قبلنا تلك المناهج والإجراءات فعلى شرط موافقة النصوص، وإلا فتغيير المنهج وتعديله أولى من قبوله ولي أعناق النصوص لتخرج على مقاسه. ومهما كانت الأسباب الداعية إلى ظهور هذه الدعوى في الثقافة الغربية، سواء أتعلق الأمر بآلية تطور اللغة، أم بالتقنيات النصية الجديدة، أم ببنية المجتمع والثقافة السائدة، فإننا غير ملزمين بتبني الموقف نفسه؛ لعدم توافر الأسباب الداعية - بقدرٍ من التشبُّع - التي تسمح بمثل هذا التحول.

غير أن القضية الجوهرية في الخلاف حول جدوى البلاغة العربية في تعاملها مع النص العربي الحديث تكمن فيما للحضارة العربية الإسلامية من خصوصية نصية، مردها مركزية النص المقدس منها، وقد تجسدت هذه الخصوصية في الموقف من النص بشكل عام، وهو موقف يرى أن لكل نص روحاً أو مركزاً يلجم شطط القراءات، ويفترض له غايات وأهدافاً تمنعه من التشظي والعبثية؛ ذلك أن كل نتاج بشري، قولي أو مسلكي، إذا كان فارغاً من النية والقصد والغاية بطل اعتباره فعلاً إنسانياً - على حد قول ابن سبعين، فوجود الإنسان نفسه في الكون ليس وجوداً عبثياً، كما أن أفعاله مؤطرة ضمن مقاصد تحدد له مساحات الإمكانيات المتاحة للفعل، وعلى هذا الأساس يحكم على كل نتاج بشري ضمن قاعدة (الخيار والمعيار)؛ ولذلك لا تنسجم مع بنية الفكر الإسلامي أفكار من مثل (العبث في الفن)، أو مدارس ذات طابع عبثي كالدادئية والسريالية، أو حتى التفكيكية، وإن وجدت في الثقافة العربية الإسلامية في لحظةٍ تاريخيةٍ ما فوجودها يأخذ، عادةً، شكل جزرٍ معزولة عن المحيط الثقافي العام.

وقد راعت البلاغة العربية - باعتبارها أحد ممثلي الفكر العربي الإسلامي - في تعاملها مع النصوص هذا الجانب الغائي المعياري، شأنها شأن كثير من العلوم ذات المنشأ الإسلامي، ولذلك يبدو من غير المعقول المناداة بموتها من أجل تبني مواقف نقدية لا تنسجم مع روح النص العربي؛ بسبب قيامها على أسس فكرية وفلسفية تنسجم مع حركة مجتمع آخر وفكر آخر، غير الفكر العربي الإسلامي، والأولى من ذلك القول بتطوير آليات البلاغة العربية، والاستفادة منها على ضوء مستجدات النقد الحديث، بشرط المحافظة على جوهر البلاغة وروحها، وهذا مطلب ملح وضروري، بسبب الخصوصية الحضارية التي تمتلكها.

ولعل مما يؤكد القول بخصوصية البلاغة العربية ارتباطها بقضية الإعجاز، فقد وجد البلاغيون في القرآن الكريم نموذجاً لن يتكرر لنص مطلق الكمال، مفارقٍ لنصوص البشر؛ ما منحهم فرصةً استثنائية لتطوير آلياتهم البلاغية على ضوء استعمالاته اللغوية، ومنذ ذلك الحين أصبح الإعجاز هو الوجه الآخر من البلاغة. ويدرك دارسو البلاغة أن كثيراً من القفزات الإجرائية التي حققتها البلاغة كانت بسببٍ من دراسة الإعجاز القرآني، ولعل من أهم ممثلي هذا التيار عبدالقاهر الجرجاني صاحب دلائل الإعجاز، وما زال في كثير من كتب التفسير ذات الطابع البلاغي وفي كثير من الكتب التي أولت الإعجاز اهتمامها كنوز تنتظر من يعيد استثمارها على نحو يخدم البلاغة والنصوص معاً.

وحتى لو نحينا العلاقة بين البلاغة والإعجاز جانباً - وهو افتراض نظري متعذر عملياً - وتركنا القول بإدانة الدعوة إلى موت البلاغة بسبب ارتباطها بالإعجاز، فإن ذلك لا يسوغ القول بموتها، فالمعرفة البشرية معرفة تراكمية تبني على ما أسس، ولا تبدأ من الصفر أبداً، وسيبدو هذا الأمر مفهوماً إذا علمنا أن الثقافة الغربية التي أفرزت الدعوة إلى موت البلاغة، عادت من جديد وتراجعت عن هذه الدعوى على يد ما يسمى (البلاغة الجديدة)، أو (البلاغيون الجدد)، وهو تيار يدعو إلى الاستفادة من إجراءات البلاغة وتطويرها على ضوء مستجدات النقد الحديث. فكيف جاز لهم مثل هذا ولم يجز لنا مع قدم درسنا البلاغي وضخامة منجزاته؟! وكيف لا يجوز لنا مثل ذلك وقد توافر لبلاغتنا من النص - أقصد القرآن الكريم - ما لم يتوافر لهم؟

وإذا كان بعض الداعين إلى موت البلاغة العربية قد تعلل بأن مراده من (البلاغة) غير ما فهمنا، وأنه لا ينظر إلى منجزات الجرجاني على أنها منجزات بلاغية، وإنما منجزات بيانية - أو أياً كان اسمها - فهذا أمر لا يستقيم مع شروط البحث العلمي، ذلك أن لمصطلح البلاغة ذاكرةً وتواضعاً وتاريخاً من الاستعمال لا يحسن الخروج عليه، وإلا غامرنا ببث الفوضى في المنجز البلاغي كله، وإذا أراد دارس أن يتعلل بأنه لا مشاحة في المصطلح، فليعلم أن مقصود ذلك يتجه إلى المصطلحات التي تُقتَرَع ابتداءً، لا المصطلحات التي استقرت مفاهيمها، وتأسست عليها علوم متكاملة.

وإذا كان المقصود من (موت البلاغة) المعنى المجازي لا الحقيقي فهذا أمر آخر يحتاج إلى مزيد بيان وتفصيل، فالتبدل والتغير في مواقع العلوم والمناهج والإجراءات أمر طبيعي في كل فروع المعرفة تقريباً؛ ولذلك قد يصح القول: إن البلاغة اليوم ليست في الموقع ذاته الذي كانت تشغله قديماً، وهذا أمر لا يكاد يماري فيه أحد، غير أننا لا نرى ذلك مسوغاً للمناداة ب(موت البلاغة)؛ لأن ما هي عليه من تراجعٍ أسهَمَ فيه النقاد والبلاغيون أنفسهم، مرة بالإهمال، وأخرى بكثرة التقعيد الذي أولى القاعدة اهتماماً يفوق الجانب الإنساني من النص. ومن هنا نجد لزاماً علينا القول بتطوير البلاغة وإعادتها إلى موقعها الذي يفترض بها أن تكون فيه بدلاً من قتلها ودفنها.

على أن السؤال الذي يبدو ملحاً الآن هو: على عاتق من تقع مسؤولية تطوير البلاغة العربية؟

لعله من البدهي القول إن الأمر منوط بالبلاغيين والنقاد معاً؛ لأن مبدأ التطوير يقع بين إجراءات البلاغة وإجراءات النقد؛ ولهذا عجبت من الغذامي حين رد على القائلين بضرورة تطوير البلاغة العربية، بدلاً من وأدها، بقوله: (طوروها إذاً وأرونا نتائجكم!!) فقد جعل نفسه خارج مقصود الضمير في قوله (طوروها) - وكأنه غير معني بالمسألة لا من قريب ولا من بعيد - وجعلنا مطالبين بالدفاع عن أنفسنا أمامه قبل أي شخص آخر! ورحم الله المتنبي حين قال: فيك الخصام وأنت الخصم والحكم!

- تبوك


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة