Culture Magazine Monday  18/06/2007 G Issue 203
فضاءات
الأثنين 3 ,جمادى الثانية 1428   العدد  203
 

قراءات في الاختلاف الثقافي (3)
سعد البازعي

 

 

الباحث الياباني تاكايوكي يوكوتا موراكامي ينطلق من قناعة تشبه تلك التي وجدنا في المقالات الماضية لدى الصينية بولين يو؛ فهو يقول أيضاً بوجود اختلافات أساسية بين السياقين الثقافيين في اليابان والغرب. ولكي يوضح الأبعاد المنهجية والثقافية العامة لأطروحته ينطلق الباحث، مثلما تفعل بولين يو، من مسألة محورية وذات بعد رمزي هي مسألة الدون جوان بوصفه شخصية شائعة في الآداب الغربية ولها ما يقابلها في آداب أخرى منها الأدب الياباني. فشخصية (الدون جوان) تشير إلى الرجل الوسيم عادة الذي يدخل في علاقات غرامية تنقله من امرأة إلى أخرى دون ارتباط بأي منهن. ويقارن الباحث المفهوم الياباني التقليدي المقابل ليجده مختلفاً جذرياً عما نجده في الغرب، على الرغم من سعي المقارنين اليابانيين إلى تغريب الثقافة اليابانية لتنسجم مع ما هو موجود في الآداب الغربية.

يعود الاختلاف حسب الباحث الياباني إلى أن مفهوم الحب في الثقافة اليابانية ما قبل عصر ميجي، الذي يعد مطلع العصر الحديث في اليابان، مختلف اختلافاً كبيراً عنه في الثقافات الغربية. فمبدأ الاحترام والمساواة ما بين الرجل والمرأة الذي ينطوي عليه المفهوم الغربي لم يكن موجوداً، لكنه وجد طريقه تدريجياً إلى الثقافة اليابانية مع عصر الميجي الذي بدأ معه تأثير الحضارة الغربية على اليابان والذي يعرف ايضاً بعصر التنوير. غير أن دخوله إلى الثقافة اليابانية لم يخل من دهشة اليابانيين في تلك المرحلة فاستوقفتهم تلك النظرة المغايرة في الغرب للعلاقة بين الرجل والمرأة. ويروي الباحث طرفة توضح الإشكالية المبدئية في التعامل مع ذلك المفهوم. فحين أراد المترجم الياباني فوتاباتي شيماي ترجمة روايات الكاتب الروسي تورجينيف إلى اليابانية واجهته معضلة ترجمة العبارة المقابلة ل(أحبك) (I love you) إذ تصدر عن امرأة، لأن المرأة اليابانية لا تربطها بالرجل علاقة (حب) بالمفهوم الغربي. ولما لم يجد مقابلاً استعمل عبارة (شنديمو إي وا) التي تعني (قد أموت من أجلك). أما العبارة المستخدمة حالياً في اليابان والتي تقابل (أحبك) فهي عبارة تحول معناها عن المعنى الأصلي السابق لعصر الميجي الذي حمل موقفاً عاطفياً متعالياً يتخذه رجل مقتدر تجاه محظيته. فالحب لم يكن بين رجل وامرأة.

من بينات كهذه، وهي كثيرة، يصل الباحث إلى الفوارق الثقافية المهمة وانعكاساتها على الترجمة وما نتج عن ذلك من سوء فهم بين الثقافتين كان اليابانيون وليس الغربيين وحدهم شركاء فيه. ويتضح عمق الاختلاف حين يضرب الباحث أمثلة أخرى تضرب في عمق الثقافة مثل مفهوم (الماء) الذي لا يوجد في اليابانية كلمة واحدة تشتمل على دلالاته المختلفة في اللغات الأوروبية. ففي اليابانية كلمات مختلفة للدلالة على الماء: الماء البارد هو (ميزو) بينما هناك كلمة (يو) التي يمكن ترجمتها إلى (ماء حار)، لكن حتى هذه الترجمة، يقول تاكايوكي، مشكوك بصحتها. لكن المهم، أو محصلة هذا كله، هو أن هذه الاختلافات تركت أثرها على الباحثين اليابانيين بشكل خاص حين تبنوا تقسيمات غربية لفهم واقعهم، تقسيمات تلغي الدلالات اليابانية الأصلية، كما نجد في قاموس (ساتسوما جيشو) الذي أنجز في بداية عهد ميجي والذي جاء، كما يقول الباحث، ترجمة إلى حد كبير لقاموس ويبستر الذي عرف ب(القاموس العالمي).

هذه النتيجة يؤكدها الكاتب الياباني كنزابورو أوي، الحاصل على جائزة نوبل للأدب سنة 1994، حين يؤكد أن المشهد الفكري والنقدي في اليابان ما يزال منذ عقود أسير الطروحات الغربية التي تأخذ شكل الموضات السريعة في القدوم والزوال. ولم يكن ذلك في قراءة الثقافات الأخرى فحسب، وإنما أيضاً في قراءة الثقافة اليابانية نفسها. ففي إشارته إلى مدرسة الكتاب اليابانيين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية يصل أوي إلى أن (منهجهم في الغوص إلى الفكر والثقافة اليابانية التقليدية كان أيضاً أوروبياً...) وكان من نتائج ذلك أنه (باستثناءات قليلة، لم يستطع اليابانيون أن يؤسسوا نظرية ثقافية خاصة بهم، وعلى الرغم مما أثارته النظريات المستوردة من الخارج من حماسة، فإنها لم تكن ذات صلة باليابان، على النحو الذي يتضح من حقيقة أنها تبدو الآن بنفس القدر من البعد والغرابة التي بدت بها عندما جاءت في البدء). يؤكد هذه الرؤية كتاب يابانيون آخرون مثل جونيشيرو تانيزاكي الذي ينطلق من ملاحظته أن اليابان تخلت عن مصدر مهم من مصادر القيم الجمالية في ثقافتها وهو الظل لتتبنى قيماً ثقافية غربية منها تفضيل الأضواء الساطعة، ليصل إلى الأطروحة الأساسية التي يختصرها في التساؤلات التالية:

ماذا يمكن أن تكون أشكال مجتمعنا؟ وإلى أي حد يمكن أن تكون مختلفة عما هي عليه اليوم لو أبدع الشرق والغرب، كل على حدة، وبشكل مستقل حضارات علمية مختلفة؟

ويضرب على ذلك أمثلة ستبدو من نوع الهرطقة لكثير من الناس سواء في الغرب أو اليابان أو العالم العربي: (لنفترض أننا طورنا فيزياء وكيمياء خاصتين بنا، طبعاً ستتخذ التقنيات والصناعات المؤسسة على هذين العلمين مسالك مختلفة. ألا تصير الآلات العديدة التي نستعملها يومياً، والمنتوجات الكيميائية والمنتوجات الصناعية، ملائمة بشكل أفضل لعبقريتنا الوطنية؟) (السابق، ص14).

هذا الكلام الذي قيل في ثلاثينيات القرن العشرين جاء من يؤيده في الغرب بعد أربعين عاماً. ففي سبعينيات القرن نفسه توصل إليا بريغوجين، عالم الكيمياء البلجيكي - الروسي، الحاصل على جائزة نوبل للكيمياء سنة 1977، في كتابه التحالف الجديد (1979) إلى أن العلم جزء من الثقافة، أي أنه ليس بالكونية التي يبدو بها لكثيرين، بمعنى أن الكشوفات والتجارب والقوانين المستنبطة تخضع في كثير من الأحيان لمتغيرات ثقافية ولسمات تفصل سياقاً حضارياً عن آخر. يقول بريغوجين: (أضحى من الملح على العلم أن يعتبر نفسه جزءاً لا يتجزأ من الثقافة التي تطور بين أحضانها).

وإذا كان هذا هو شأن علوم بحتة مثل الفيزياء والكيمياء التي تعد مستقلة عن مجرى الثقافة، فإن من باب أولى أن تكون مناهج التفكير والبحث في العلوم الإنسانية بطبيعتها الأقرب إلى الثقافة وحركة المجتمع شديدة الانحياز إلى تلك الثقافة وتلك الحركة المجتمعية.

الباحث الكوري دونغ إل تشو وجد مشكلة مشابهة حين تأمل المعايير المطبقة في تحدد الأحقاب الأدبية في الدراسات المقارنة. فالطاغي، كما تبين للباحث، هي المعايير الأوروبية التي قسمت الآداب إلى قديم ووسطوي وحديث. تلك المعايير إن صدقت على الآداب الأوروبية فإنها لا تصدق بالضرورة على غيرها من الآداب، بل إن (تطبقيها خارج حدودها)، كما يقول، (أقرب إلى أن يؤدي إلى تشويه لتاريخ الآداب العالمية نتيجة لمركزيتها الأوروبية).

نحن إذاً إزاء توجه متنامٍ في الثقافات الآسيوية كان يمكن التوسع في استكشاف انتشاره وتأثيره لولا ضيق الحيز المتاح لورقة بحثية. فالهند وإيران وبعض الدول الإفريقية لا يمكن أن تكون بمعزل عن هذه التوجهات، وهي ليست كذلك. كما أن العالم العربي شهد في السنوات الأخيرة مساعٍ مشابهة لتأصيل التوجه نحو قراءة الاختلاف الثقافي وتوظيفه للوصول إلى تنول أكثر إثراء للأداب العالمية ومنها الأدب العربي نفسه. وسيضيق الحيز لو أردت أن أستعرض أهم المساعي في ذلك الاتجاه، لكني أشير بسرعة إلى جهود المرحوم شكري عياد وعبد الوهاب المسيري في مصر بالإضافة إلى جهود نقاد من المغرب العربي ولبنان، وكانت لكاتب هذه الورقة محاولة متواضعة في السبيل نفسه. بيد أنه ما زال هناك الكثير مما ينبغي عمله للوصول بذلك التوجه البحثي إلى درجة أكثر نضجاً وتأثيراً.

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5135»

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة