Culture Magazine Monday  18/06/2007 G Issue 203
نصوص
الأثنين 3 ,جمادى الثانية 1428   العدد  203
 

قصة قصيرة
ثقب ضوء
عبدالله ساعد المالكي

 

 

كسهم من الضوء يتسلل شعاع الشمس من ذلك الثقب الصغير في الجدار الشمالي لغرفته كل عشية، ثم يستقر وسطها تماماً يبدي في التلون والاضمحلال كلما انحدرت الشمس تجر وراءها ستر الظلام تجتاحه الذكريات كاجتياح الأمواج للشواطئ الرملية فينثني موجعاً على ما أحدثته في ذاته من ندوب. ينزوي في ركنه القصي يحتضن جهاز (الراديو) الصغير ذي الغلاف الجلدي والموجات الثلاث يبحث عن موجة تبثه أهة عبر المسافات يعدل الهوائي يصيخ السمع يلصق أذنه اليمنى على (الراديو) يسمع أغنية (أنا عندي حنين) يقتحم الصوت ذاته الفارغة. يتشتت مع رنات العود تنتهي الأغنية فيجمع شتات فؤاده. يوغل في أحشاء الليل يقفل الراديو، يتمدد يسوي وسادته ثم ينام يستيقظ قبل الفجر، المشذب المعدني خلف باب الغرفة يحمل ثلاث قطع تختفي في تفاصيلها مفردات لجانب من الحياة. يرتديها ويترك الباب موارياً والمشذب خالياً وثقب الضوء باهتاً ثم ينطلق يعانق الشوارع والزوايا الضيقة يرصد حركات الأيدي وتلون الوجوه. ترتفع يد من زاوية الشارع وتستقر في المقعد الخلفي لا ينظر إلى وجه صاحبها يسمع كلماته إلا مرة ينطلق دون تعليق يسلك طرقاً معتادة ويجتاز مسافة ثم يتوقف أمام عنوان جديد، اليد ذاتها تمتد بمحاذاة وجهه تحمل ورقات معدودة يحشرها دون عد في ثنايا قميصه ويعود المقعد خالياً، ينطلق مجدداً تهتز مفاصل مطيته وتنساب الريح دون تعب على اللون الموسوم بالأصفر وتبقى عينه ترقب يداً ملوحة في الفضاء وجسداً يملأ المقعد الخالي إلى جواره، يمضغ الوقت تفاصيل النهار ويتمدد على جسده الملل يسمع صوت آذان العصر، يقرر عودته، يركن مطيته على مدخل المنزل ذو الغرفة الواحدة. يدفع بنفسه خارج المقعد اللزج يلفح الهواء البارد ظهره المبلل بالعرق. يستخرج مفتاح القفل الأصفر السميك يحرر الباب الحديدي من السلسلة. لم ينسكب بعد قال محدثاً ذاته وهو يقف في المكان الذي تستقر عنده نهاية الضوء المسكوب كل عشية ينزع عن جسده ملابسه التي ينبعث منها عفن الرطوبة، يتجه إلى المغسلة التي ترسل الماء عنوة ويعلوها مكاناً لمرآة بقيت زمناً معلقة لتأمل الوجوه العاتبة يسكب الماء على أطرافه ثم يتولى إلى ركنه يترقبه ينسكب الضوء كحلم وتلتمع في خيط الشعاع المستقيم القادم إليه مباشرة من ضوء الشمس جزيئات لا تحصى من غبار الغرفة، يبدأ العمود الأبيض يتحرك كمؤشر الساعة يكتسي شيئاً من اللون الأصفر ثم الأحمر ثم يضمحل يحتضن العالم إلى صدره مجدداً ويشرع يقلب موجات الأثير يبحث عن آهة كي تسكنه ذلك المساء. تعانق مسامعه الأصوات الحانية التي تسكب الحنان بلا حساب والمفرحة والتي تتصنع الفرح والحزينة المكللة بالكدر تنثال الكلمات عبر الألسن المبين منها كالضوء المرسل إلى عالمه والغامض كعالم القبور، بستر الليل بأحلامه يقيسه بغربته يمتلي بالكلمات ويفيض به الشجن، يغلق الراديو مكرها ويسلم جسده لخدر نوم تتخلله كوابيس قادمة إليه من زوايا قريته النائية.

ينتبه مفزوعاً ما زال الليل المشبع بالرطوبة يجثم في أنحاء المكان. يجاهد كي تغمض عيناه يستجدي لها الظلام وكلما فعل تبدد عليه قسراً بفعل الشعاع القادم من عين الشمس.

قاص سعودي من مجموعته القصصية رائحة الجلد (تحت الطبع)


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة