Culture Magazine Monday  03/11/2008 G Issue 259
فضاءات
الأثنين 5 ,ذو القعدة 1429   العدد  259
 

أثر القوانين الطبيعية في المذاهب السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدى الغرب (2)

 

 

رياح التغيير

جدّت في أواسط القرن السادس عشر وما تلاه عوامل هي أشبه بزلزال هزّ الفكر الغربي وجعل المفكرين يعيدون النظر في كل أو جُل مسلماتهم، وما الفوا الاطمئنان إلى صحته وسلامته من الأفكار والممارسات، وبدء وضع كثير من الموروثات موضع البحث والمساءلة، وإذا كان من الصعب أن لم يكن من المتعذر حصر كل العوامل التي أدت إلى الانعتاق من حبس المناخ الفكري الذي مر بنا جانب منه، إلا أن الدارس لهذه الحقيقة لا يخطئ تبين علامات بارزة صنعت هذا التغير أو أدت إليه، ومن هذه العوامل ما يلي:

(1) ظهور كتابي (فرانيسي بيكون) (الأداة الجديدة Novumorganuna) (إطلانطا الجديدة New Atlantis) وقد قام في الكتابين بحملة مركزة على الفلسفة اليونانية ووصفها بالعقم وعدم تقديمها أي مساهمة لنفع البشر لقيامها على الحدس والتأمل وافتقارها لأي صلة بالاختبار التجريبي أو المشاهدة ورأى أن التجربة وحدها والاستقراء وليس القياس هما الطريق المأمون للوصول إلى المعرفة الحقة وفي كتابه (أطلانطا الجديدة) تخيل قيام نفر برحلة إلى جزيرة مهتمة بالبحث حيث أخذهم حاكم الجزيرة إلى مختبر لديه للأبحاث وخاطب ضيوفه القادمين إليه بقوله: (يا أبنائي لتحل بركة الله عليكم إني سأعطيكم أثمن جوهرة أمتلكها لأنني سأهبكم الصنعة التي قامت عليها مملكة سليمان، إن غاية مختبرنا هي معرفة الأسباب والحركات الخفية في الأشياء، وتوسيع حدود المملكة الإنسانية ليصل الإنسان إلى جميع المعارف الممكنمة عن الكون الذي يعيش فيه..(6).

(2) ظهور أعمال (كوبر نيقوس وجاليلي) التي جاءت هزة عنيفة للدعامة الثانية وهي المعتقد الكاثوليكي فيما يتصوره ويعتقده عن الكون، وجاء تلسكوب جاليلي مؤيداً لهذا الكشف.

(3) ظهور وانتشار ما كتبه الكاتب الفرنسي ذائع الصيت (فولتير Vlltaire) في القرن الثامن عشر وفي الأخص بعد حادثة (جان كلاس) التي وقعت في فرنسان، وكانت مقالاته التي كان يكتبها تحت عنوان (اسحقوا العار) أشبه بقذائف مدمرة لكثير من تصورات الكنيسة ومعتقداتها(7).

(4) مفتاح (رينيه ريكارت R. Descartes) في الوقت الذي كانت تتردد فيه أصوات كل من (بيكون وكوبر نيقوس وجاليلي)، ظهر صوت آخر من فرنسا لم يكن أقل منهم تأثيراً وهو صوت (رينيه ديكارت) الفيلسوف المعروف، وكان ديكارت في أول نشأته مهتماً بالقانون والفلسفة ثم توجه إلى الرياضيات فعشقها ورأى أنها المفتاح لأسرار الكون وألغازه، وتصور أنه سيوجد يوماً ما قانون رياضي عام يمكن أن يغير ما استغلق من أسرار الكون، إنه يقول في كتابه (Mathematics In Nature) عندما تأملت الأمر بدا لي واضحاً أن كل ما استعصى فهمه يمكن أن يرجع إلى شيء واحد وأن يفهم عن طريق واحد، هذا الشيء هو الرياضيات، لا فرق في ذلك إذا كان ما نبحثه إعداداً أو أرقاماً أو نجوماً أو سوى ذلك، أنني أشعر أن هناك علماً واحداً يفسر كل هذه الظواهر هذا العلم هو الرياضيات طالما أن الامتداد والحركة هما الشيئان الأساسيان في الكون..(8).

ظهور اسحاق نيوتن

في هذا المناخ الذي مر وصفه وهو مناخ هدّ كثيراً من الأسوار وحل موثقاً من القيود بعد أن وصل العقل إلى كشوف أدت إلى معرفة أوثق لسنن الكون، ولد إسحاق نيوتن عام 1662م في إنكلترا، وبعد إجازته من الجامعة أظهر من النبوغ ما جعله في مقدمة الذين عرفهم الفكر الإنساني في تاريخه، فقد وضع علم التفاضل والتكامل بعد عامين من تخرجه ووضع بعد ذلك بفترة وجيزة قوانينه الثلاثة في الحركة وقانونه في الجاذبية وما مع لعلم التفاضل والتكامل من أثر في الفيزياء، والكيمياء والفلك والهندسة والاقتصاد وفي مجالات أخرى في المعرفة، فإن قوانينه في الحركة وقانون الجاذبية عمل نقلة كاملة في تاريخ الفكر العلمي للإنسان.

ما هي هذه القوانين التي صنعت كل هذا الأثر وما منطوقها وماذا يدل عليه هذا المنطوق من مفهوم وما دلالات المنطوق والمفهوم؟.

لا أحسب أن هناك من النصوص ما هو أكثر إيجازاً في لفظ وأحفل بمعنى من هذه القوانين، وهي تبدو في بساطتها وإيجازها وكأنها لغو طفل.

القانون الأول: ينص على أن (كل جسم يبقى على حالته من السكون أو الحركة في خط مستقيم ملتزماً باتجاهه ما لم تؤثر عليه قوة خارجية تغير من حركته أو اتجاهه).

القانون الثاني: ينص على (معدل التغير - أي العجلة - في حركة جسم أو اتجاهه يتناسب مع القوة المؤثرة ويكون في اتجاه خط عملها).

القانون الثالث: يقرر أن (لكل فعل رد فعل مساوٍ للأول في المقدار ومضاد له في الاتجاه).

أما قانون الجاذبية: فينص على أن (بين كل جسمين قوة تجاذب تتناسب طرداً مع كتلتيهما وعكسا مع مربع المسافة الفاصلة بينهما).

تلك هي قوانين نيوتن في الحركة والجاذبية، وليس هناك تلميذ مر بمرحلة التعليم العام لم يقرأ هذه القوانين ويُعطى مسائل على تطبيقاتها ويختبر في النص والتطبيق، وقد يمر الواحد منا بهذه القوانين فلا يراها تزيد أو تختلف عن محفوظات يتلقاها التلميذ في مدرسته كأي محفوظات أخرى، إلا أن هذه المحفوظات التي لا تزيد في نصوصها عن سطور قليلة، قد أحدثت نقلة كبرى في فكر الإنسان ومواقفه، ذلك أنه إذا كان من يعرف منطوقها وتطبيقاتها الرياضية المباشرة عدد كثير، فإن من يعرف دلالاتها الفلسفية عدد قليل قليل.

المقارنة بين فيزياء أفلاطون وأرسطو ودلالتها وفيزياء نيوتن ودلالتها تلقي ضوء كاشفاً على طبيعة وفحوى كل من الفيزياء اليونانية وفيزياء نيوتن.

ركائز الفيزياء اليونانية

1 - وجود محرك لكل حركة.

2 - الغائية في الأشياء.

3 - غائية الحركة.

4 - لا حركة في الفراغ.

5 - مركزية الأرض للكون.

منطوقات فيزياء نيوتن

1 - إذا اكتسب الجسم سرعة ابتدائية فلا يحتاج إلى قوة جديدة لاستمرار حركته.

2 - لا غائية في الحركة، والحركة والسكون يتمان بعامل القصور الذاتي.

3 - الحركة التي تحدث عنها قوانين نيوتين مقبسة في الفراغ.

4 - ليست الأرض مركز الكون وبالتالي لا يجوز أن تتخذ مرجعاً للقياس.

لقد جاءت ركائز فيزياء أفلاطون وأرسطو نتيجة لنظرتهم لما تصوروه عن طبيعة الكون، فقد كان تصورهم أن الكون يتألف من عوالم سفلية وأخرى علوية، وأن العوالم العلوية تتكون من أفلاك ثمانية متحركة يحيط بها فلك تاسع محرَّك غير متحرك، وأن العالم منزل صمم للملائمة وأن الأجسام تتحرك لغاية وهي العودة لأصلها، فجاء كشف كوبر نيقوس وقوانين نيوتن ناسخة لهذه التصورات.

لقد أسقط فلك كوبر نيوقس مركزية الأرض، كما أن القانون الأول من قوانين الحركة يعني أن الجسم إذا اكتسب سرعة ابتدائية فإنه لا يحتاج في حركته إلى محرك وأنه يبقى على حالته بسبب ما في طبيعته من عطالة أي قصور ذاتي تجعله عاجزاً عن تغيير حالته، ويحدث هذا التغير عندما تؤثر عليه قوة خارجية فقط، ومن ذلك ينتج أن لا غائية لحركة الأجسام وإنما هي عمل ملزم لها، كما أن قانون الجاذبية أماط اللثام عن القوة التي تحكم الأجرام المتحركة في أفلاكها.

لقد أدهش الناس من هذه القوانين دقتها وصرامتها، وانطباقها على أصغر الأجسام على الأرض وأكبر الأجرام في السماء، كما أمكن عن طريق قانون الجاذبية التنبؤ بوجود أجرام سماوية لم تكن معروفة آنذاك فتم اكتشافها لا حقاً، لذلك وجد كثير من علماء فروع المعرفة المختلفة فيما توصل إليه نيوتن دلالة على أن الكون آلة كبيرة يخضع لقوانين عامة ثابتة، وأنه يمكن كشف هذه القوانين كما تنبأ بذلك ديكارت.

يتبع

(6) Randal j p.204

(7) في كتاب تيارات الفكر الفلسفي تفصيل لهذه الكتابات.

(8) Rifkin, Emttopy, PALADIN 1985 j p.30

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة