Culture Magazine Monday  03/11/2008 G Issue 259
فضاءات
الأثنين 5 ,ذو القعدة 1429   العدد  259
 

الخوجة ورحلته الشعرية
د. محمد عبده يماني

 

 

أهداني الشاعر الرومانسي والصديق العزيز ورفيق الدرب في مسيرة التعليم وأمواج الإعلام ديوانه الجديد وقد سماه (رحلة البدء والمنتهى)، وقد فرحت بالديوان لأنه جاء جامعاً لكل أعماله وتميز بإخراج رائع واحتوى على مجمل إنتاجه فيثوب قشيب وحلل رائعة تغري بالتهام الديوان، وتسمح حتى لمن يقرأ شعر عبدالعزيز خوجة أن يقرأه ومن سبق أن قرأ أن يقرأه من جديد.

والدكتور عبدالعزيز خوجة من الرجال الذين يعتزون بإنتاجهم ويفرح بولادة القصيدة، وتحس بأنه يحتضنها ويدللها، وقد كان في بدايته متواضعاً في إنتاجه الشعري ولكن بعد حياته في خارج المملكة وبصورة خاصة في المغرب العربي وفي لبنان وحتى مصر تفتقت المواهب وأصبحت لديه القدرة والجرأة في التعبير ونشر كل ما يجول بخاطرة، وبدأ النقاد يحللون هذا العطاء وشعروا بأنه شاعر رومانسي قادم ينافس على مائدة الشعراء، والعادة أنهم يغارون من القادم ولا يرحبون بعطائه إلا بعد حين لكنهم كأنما وجدوا في شعره مصداقية وعذوبة وإبداعاً حملهم على قراءته والترحيب به دون غيرة ودون انتظار.

والديوان سماه (رحلة البدء والمنتهى).. وكأنني كرهت هذا العنوان وفرحتُ برحلة البدء ولم أرتح إلى قفلها بالمنتهى، فالرحلة قد بدأت والمسيرة استمرت والعطاء تواصل والإبداع مستمر فكيف نقبل منه أن تكون هذه رحلة المنتهى كما كانت رحلة البدء، وقد كان أولى به أن يسميها (رحلة البدء ومسيرة العطاء) أو أن يسميها وقد غرق في الرومانسية (رحلة البدء ورومانسية بلا انتهاء)، فأنا أشعر أنه متجدد في مجال الرومانسية وما عاد يجرؤ على إخفائها أو التورية عنها، وحتى كانت أصوات الحب التي يسمعها فهو يسمعها مختلفة عن بقية الناس فهي عنده أغنية ترتحل من آه إلى آه ورؤى تضيء من وهجها السماء حتى عندما قسا عليه هذا الشعور أخذ يشكو إلى ربه واعترف بأن لا مخرج له من الله إلا إليه فأخذ يجأر ويصدح ويعترف بأن الحب مرهون به وهتف: وارباه لا أحد سواه، وهو رجل يتوه في ظلمات الحب ويفقد حتى المصباح ويعترف: لا مصباح عندي ولا دليل ولا رفيق في فلاة:

ها إنني أمضي ولا مصباحَ عندي

لا دليلٌ لا رفيقٌ في فلاةْ

إلا نداءٌ من حبيبٍ راوَدتْني

مقلتاهُ يكادُ يأخذني سناهْ

ونزفت من ليلي ومن أرقي ومن

ظنّي ومن نفسي ومن وَجَعِ الجراحْ

بل إنّه يا قلبُ من وهمِ الخريفِ

وقد تطايرَ عمرهُ نَهْبَ الرياحْ

وعجبت أن رفيق العمر الدكتور عبدالعزيز خوجة يقيد هذا الديوان الجميل الرائع بقيود تقليدية لا مبرر ولا داعي لها، فيجعل الحقوق محفوظة ويحظر نشر هذا الكتاب، مع أنه يا صاحبي منك للناس جميعاً ولا تملك أن تمنع في عصر وصل الإعلام بكل إبداع لكل صقع من أصقاع الدنيا فكيف برومانسية الشعر العذب تريد أن تحجبها من أناس يقبلون عليها ولا يملكون القدرة على الشراء لكن لديهم القدرة على الحب والمتعة بهذا العطاء فراجع نفسك واعتق هذا الكتاب فهو ملك لكل محب، وعلى الرغم من أنني كنت قد قرأت معظم هذه القصائد أو عشت مع الشاعر بعض معاناتها، إلا أنني وجدت متعة في إعادة قراءتها خاصة وأنا أطلع في البداية على تمهيد لرفيق وحبيب آخر وهو الصديق والأديب الملهم الأستاذ السيد عبدالله عبدالرحمن الجفري، وهو من خلع عليه شاعر الصهيل الحزين وأحس بقدرته على التجديد في التراث وإضافة طابعٍ إنساني على الصورة الشعرية يزيدها جمالاً وأحس أن الحزن يطغى على أسلوبه، وسرتني لمحة السيد عبدالله الجفري إلى ذلك الدرويش المتقاعد والذي عنده كل شيء ومع ذلك يقول لا شيء:

لا شيءَ لدي لا شَيءَ

أو في الجُبَّةِ شيءْ

أو تحتَ القُبةِ شيءْ

تقْلتُلني الشَمْسُ ويُحْرِقُني الفَيءْ

ثم جاءت مقدمة الأديب الأستاذ رفيق المعلوف وهو شاعر وكاتب عربي قدم نقداً مركزاً عن الديوان وراح يتساءل إن كان شعر عبدالعزيز خوجة شعراً حديثاً أو هو امتداد لأرومة الشعر العربي الذاتي الذي ارتكز على سندان الخليل، ويرى أن الرمزية في شعر الدكتور عبدالعزيز خوجة واضحة بصفتها الإنسانية في العديد من قصائده وأنه برع في صناعة عناصر التجديد باقتصار كل قصيدة من قصائده على موضوع واحد في أبيات لا تتجاوز العشرين في وقت اعتاد الناس أن تشتمل القصيدة العربية على عدة موضوعات لا يتصل بعض هذه الموضوعات ببعض.

وأعجبني رأي الأستاذ رفيق، وهو يتحدث عن الإيجاز في قصائد خوجة وبعدها عن الحشو فأرجع أسباب ذلك كما يقول إلى جذور آسيوية في جيناته الشعرية السلفية تقربه من شعراء مثل عمر الخيّام وحافظ شيرازي وجلال الدين الرومي، والشاعر التركي عزمي مصطفى حالتي الذي نظم (رباعيات) على طريقة الخيام ومثنويات على طريقة جلال الدين.

وكثيراً ما تبرز في توريات الخوجة الشعرية أرستوقراطية نفس ماردة تتفجّر عاطفتها الإنسانية المعذبة في أوج منعتها.

كما أن مطولات الدكتور خوجة تزدحم فيها وقائع بدر وذكريات فجر الإسلام وأنوار الصحابة وسير المجاهدين، فيظهر في شعره أثر شوقي في (نهج البردة) و(سلوا قلبي) وغيرها من قلائد أمير الشعراء.

ومن حسن الحظ أنني حضرت ولادة بعض قصائده من المطولات وسمعته بنفسي وهو يرددها بسعادة غامرة، فقد كلمني يوماً من موسكو عندما كان سفيراً لخادم الحرمين الشريفين هناك وأسمعني قصيدة كان مخاضها هناك (لو أنهم جاؤوك) وفرحت بها وأحسست أنها تنبع من وجدان مؤمن وقلب محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوة صادقة لعودة إلى سيرته ومنهجه القويم كانت بدايتها:

لو أنهم جاؤوكَ

ما شدُّوا رحالهُمُ إلى جهة الضياعْ،

لو أنهم..

ما تاه ربانٌ لهم

أو ضلَّ في يمٍ شراعْ

ثم يستمر:-

لو أنهم جاؤوك

ما نُصب الحدادُ على الجباهْ

الله ، يا الله!

لو أدنو قليلاً من مداهْ

الله ، يا اللهّ

لو ترفو تمزُّق نفسىَ الأولى رؤاهْ

الله ، يا الله!

لو ضمّختُ قلبي من شذاه وفي سناهْ

الله ، يا الله!

لو تدنو إذن مني يداه

لتفجَّرت روحي من الصوّان سهلاً من مياهْ

الله ، يا الله!

ويقول في صراحة ووضح ودعوة للعودة إلى المنهج:

لو أنهم جاؤوكَ لا نبلج الصباحُ

فيهمْ وما عاثت بوجهتهم رياحُ

ما عفّرت غربان شطر صهيلهم

بالشؤم أو عضّت على دمهم رماحُ

ما ضجّ بين وجيبهم خوفٌ تغمّدهم

وما ذُلّتْ على نفسٍ جراحُ

إني أتيتُك سيدي، وبخاطري

أوطاننا، ودماؤنا - هدراً - تباحُ

ويطلب الشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام الله من الذنوب التي أحاطت بهذه الأمة:

فاشفع لنا، يا سيدي، من ذنبنا

إنا طرقنا الباب.. يحدونا الفلاحُ

فعظيم شأنك عند ربك سامقٌ

وعظيم رحمته يكلّلها سماحُ

ضلُّوا طريقهم، وما جاؤوا،

وما فطنوا،

لو جاؤوكَ...

لا نبلج الصباحُ

ويقول بصراحة ووضوح:

يا سيدي!

سقط القناع على المسارح

عن وجوه لم تكن إلا قناعْ

يا سيدي!

هل يحمنا فمنا

وقد خرّت قلاعُ

لم نكن

أبداً

قلاعْ

لو أنهم جاؤوك

ما شدوا رحالهم

إلى جهة الضياعْ..

وتأتي الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خواتم قصديته:

مولايَ

صلِّ على الحبيب المصطفى

ما شعّ نوركَ في السماء،

وما اصطفى

حتى تطهّر روحهُ أرواحنا

حمداً به تُثْرى النفوسُ الواجفهْ

صلِ عليه بما يليق بذاته،

وبذاتك العظمى

صلاة وارفهْ

حتى تشعّ قلوبنا بسلامه

وسلامك الأقصى

نجوما طائفهْ

دامت لنا آلاؤه..

دُمنا بها.

دُمنا لها

ما شاء أمركَ،

واكتفى...

مولاي صلِّ على النبيِّ المصطفى

وختاماً فهذه إضاءات حول جوانب من رحلة هذا الشاعر المبدع، والذي سماه الصديق الراحل عبدالله جفري بشاعر الصهيل الحزين، والحق أن الدكتور عبدالعزيز خوجة استطاع أن يحرز له مكانة مرموقة بين شعرائنا ليس في المملكة فحسب ولكن بين شعراء العالم العربي الذين قدروا شعره وشهدوا له وهو يتجول من نهر إلى نهر، كما قال الحبيب الجفري بلغة فيها جماله يرفض التواضع في الانكسار الذي يصيب الحلم أحياناً، فهو الحلم الرائع الذي لا نهاية له ولا ضفاف ويتعالى دائماً ويسمو بأدبه وخلقه وشعره ومشاعره فسلام وتحية من الأعماق لأخي الحبيب الشاعر الرومانسي الأستاذ الدكتور عبدالعزيز خوجة ورحمة الله وبركاته.

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة